الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 17 ] قال ( وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس ) [ ص: 18 ] لقوله عليه الصلاة والسلام { والفضة بالفضة هاء وهاء } معناه يدا بيد ، وسنبين الفقه في الصرف إن شاء الله تعالى .

قال ( وما سواه مما فيه الربا يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي في بيع الطعام ) .

له قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف { يدا بيد } ولأنه إذا لم يقبض في المجلس فيتعاقب القبض وللنقد مزية [ ص: 19 ] فتثبت شبهة الربا .

ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب ، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين ، بخلاف الصرف لأن القبض فيه ليتعين به ; ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام { يدا بيد } عينا بعين ، وكذا رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وتعاقب القبض لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا ، بخلاف النقد والمؤجل .

التالي السابق


( قوله وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان ) ذهبا وفضة بجنسه أو بغير جنسه ، فإن كان بجنسه اشترط فيه التساوي والتقابض قبل افتراق الأبدان ، وإن اختلف المجلس حتى لو عقدا عقد الصرف ومشيا فرسخا ثم تقابضا وافترقا صح وأن لا يكون به خيار ، وكذا السلم ولا أجل كذا ذكر ، وهو مستدرك لأن اشتراط التقابض يفيده .

ولو أسقط الخيار والأجل في المجلس عاد صحيحا خلافا لزفر ، وإن كان بخلاف جنسه كالذهب بالفضة اشترط ما سوى التساوي . واستدل على اشتراط التقابض بقوله صلى الله عليه وسلم { الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء } وروى ابن أبي شيبة من حديث [ ص: 18 ] ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والورق بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء } ورواه أصحاب الكتب الستة { الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا } إلى آخره ، وهاء ممدود من هاء وألف وهمزة بوزن هاع مبني على الفتح ، ومعناه خذ وهات : يعني هو ربا إلا فيما يقول كل منهما لصاحبه خذ ، ومنه { هاؤم اقرءوا كتابيه } وفسره بأنه يعني يدا بيد في الحديث المتقدم ثم قال ( وما سواه ) أي ما سوى عقد الصرف ( مما فيه الربا ) من بيع الأموال الربوية بجنسها ، أو بخلاف الجنس يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض ، فلو افترقا بعد تعيين البدلين عن غير قبض جاز عندنا ( خلافا للشافعي في بيع الطعام ) أي كل مطعوم حنطة أو شعير أو لحم أو فاكهة فإنه يشترط فيه التقابض لقوله صلى الله عليه وسلم { يدا بيد } ولأنه حينئذ يقع التعاقب في القبض وللنقد [ ص: 19 ] مزية فيكون كالمؤجل إذ يحصل التفاوت في البدلين .

( ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط في ) صحة بيعه ( والقبض كالثوب ) بالثوب والعبد بالعبد ونحو ذلك ، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف وذلك يترتب على التعيين فلا حاجة إلى اشتراط شرط آخر وهو القبض ، بخلاف الصرف لأن التعيين لا يحصل فيه إلا بالقبض ، فإن الدراهم والدنانير لا تتعين مملوكة بالعقد إلا بالقبض . قال : ومعنى ( قوله يدا بيد عينا بعين ) وكذا رواه عبادة بن الصامت تقدم رواية عبادة بن الصامت " يدا بيد " وله رواية أخرى عند مسلم " عينا بعين " ولفظه في مسلم { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى } وفيه قصة ، وقوله يقع التعاقب فيحصل التفاوت ممنوع ، بل هذا القدر مهدر لا يعد زيادة ما لم يذكر الأجل .

وقد استشكل بأنه استدل ب " يدا بيد " على اشتراط التقابض قبل الافتراق في الصرف ، ثم استدل به هنا على أن الشرط التعيين لا التقابض فيكون تعميما للمشترك أو للحقيقة في المجاز .

والجواب أنه فسر هاء وهاء ب " يدا بيد " ، وفسر يدا بيد بالتعيين لرواية عينا بعين ، واستدلاله به على التقابض في الصرف لا ينفيه لأن الاستدلال به هناك إنما هو على التعيين أيضا ، لكن لما كان التعيين هناك بالتقابض يكون لا بغيره ، لما قلنا إنها لا تتعين إلا بالقبض كان الاستدلال بها عليه استدلالا عليه ، لكي ينبغي أن يقال حمل يدا بيد على معنى عينا بعين ليس أولى من قلبه . وأجيب عنه بأن رواية عينا بعين تفسير للمحتمل ، لأن يدا بيد يحتمل معنيين فهي تفسير له .

ولو كان المراد منه القبض لم يبق لقوله عينا بعين فائدة لأنه يحصل بالقبض ضرورة فلزم [ ص: 20 ] أن عينا بعين تفسيرا ليدا بيد . ولقائل أن يدفعه بمنع الاحتمال بل هو ظاهر في التقابض . ويجب أن يحمل عينا بعين عليه لأن القبض أخص من التعيين ، وكل قبض يتضمن تعيينا وليس كل تعيين قبضا ، وباب الربا باب احتياط فيجب أن تحمل العينية على القبض ، ويؤيده فهم عمر رضي الله عنه كذلك في الصحيحين : أن مالك بن أوس اصطرف من طلحة بن عبيد الله صرفا بمائة دينار ، فأخذ طلحة الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة وعمر يسمع ذلك ، فقال : والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء } وبهذا استدل ابن الجوزي على اشتراط التقابض على أبي حنيفة رضي الله عنه ، وكيف ومعنى هاء خذ وهو من أسماء الأفعال ومنه { هاؤم اقرءوا كتابيه } وقال قائل : تمزج لي من بغضها السقاء ثم تقول من بعيد هاء .

وأما ما نقل من قياس الشافعي على الصرف في اشتراط التقابض فدفع بأن الاسم ينبئ هناك عن صرف كل إلى الآخر ما في يده ، والمعاني الفقهية تعطف على الأسماء الشرعية ، وليس في الفرع ذلك إلا أنه لا حاجة له إليه لأن الدليل السمعي على الوجه الذي قررناه يستقل بمطلوبه




الخدمات العلمية