الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1981 - وعن أبي البختري قال : خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين ، فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال ، فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين ، فقال : أي ليلة رأيتموه ؟ قلنا : ليلة كذا وكذا ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه ، وفي رواية عنه قال : أهللنا رمضان ونحن بذات عرق

فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس يسأله ، فقال ابن عباس : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - تعالى - أمده لرؤيته ، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة
" ، رواه مسلم .

التالي السابق


1981 - ( وعن أبي البختري ) بفتح الموحدة والمثناة بينهما معجمة ساكنة ، ثقة ثبت فيه تشيع قليل ، كثير الإرسال ؛ كذا في التقريب ، فما كان من حديثه سماعا فمقبول ، وما كان عن كذا فهو ضعيف ، ذكره في المقدمة ، وفي بعض النسخ بضم المثناة ، قال الطيبي : اسمه أسعد بن فيروز الكوفي ( قال : خرجنا ) أي من بلدنا ( للعمرة ) أي لأجلها وقصدها وتحصيلها ( فلما نزلنا ببطن نخلة ) قرية مشهورة شرقية مكة تسمى الآن بالمضيق ؛ قاله ابن حجر ( تراءينا الهلال ) أي اجتمعنا لرؤية الهلال لكمال ظهوره ، أو أرى بعضنا بعضا لخفاء نظره أو عدم علمه بمسقط قمره ، قال ابن الهمام : الإشارة إلى الهلال تكره لأنه فعل أهل الجاهلية ، فيه أنه يحتاج إلى الإشارة عند الإراءة فتحمل الكراهة على وقت عدم الضرورة ( فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ) أي صاحب ثلاث ليال لعلو درجته ( وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين ، فلقينا ) أي نحن ( ابن عباس ) بالنصب ، وفي نسخة بالرفع وفتح الياء في لقينا والمعنى هو لقينا ، والأول أصح لفظا ومعنى ؛ فإن فيه رعاية الأدب ( فقلنا ) أي له ( إنا ) أي معشر القوم ( رأينا الهلال ) أي مرتفعا جدا ( فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين ، فقال ) أي ابن عباس ( أي ليلة ) بالرفع ، وفي نسخة صحيحة بالنصب وهو أفصح من أية ليلة ( رأيتموه ؟ ) أي الهلال فيها ( قلنا : ليلة كذا ) أي رأيناه ليلة كذا وهو الإثنين مثلا ( وكذا ) وهو ليلة الثلاثاء ( فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مده للرؤية ) أي جعل مدة رمضان زمان رؤية الهلال ؛ ذكره الطيبي ، وأما قول ابن حجر : أي لوقتها . فغير ظاهر ، لأنه إن أراد أن اللام للتوقيت فلا وجه للجمع بينهما ، وإن أراد أن اللام بمعنى بعد فلا وجه لذكر الوقت فإن المعنى يتم بدونه ( فهو ) أي رمضان ( لليلة رأيتموه ) قال ابن حجر بإضافة " ليلة " إلى الجملة ، وفي النسخ المصححة بالتنوين ، ويدل ما سبق من قوله " أي ليلة رأيتموه " غايته أنه يقدر فيها فيهما ، والمعنى رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة ، ولا عبرة بكبره ، بل ورد أن انتفاخ الأهلة من علامات الساعة ، وأما قول ابن حجر فهو حاصل وقت ليلة الرؤية فغير صحيح لإضافته الوقت إلى الليلة وهي الوقت أيضا ( وفي رواية عنه ) أي عن أبي البختري ( قال : أهللنا رمضان ) في النهاية أهل المحرم بالحج إذا لبى ورفع صوته ، ومنه إهلال الهلال واستهلاله إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته اهـ فمعناه رأينا هلال رمضان ، وقال ابن حجر : أي تراءيناه كما في الرواية الأولى ( ونحن بذات عرق ) بكسر العين وسكون الراء ، قال ابن حجر : فوق بطن نخلة بنحو يوم ، إذ هي على مرحلتين من مكة ، وبطن نخلة على مرحلة ، ذكره ابن حجر ، [ ص: 1380 ] ( فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس يسأله ، فقال ) أي فسأله عما وقع بيننا مما سبق فقال ( ابن عباس : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد أمده لرؤيته " ) قال القاضي : معناه أطال مدته إلى الرؤية ، أي أطال مدة شعبان إلى زمان رؤية هلال رمضان ، وأما قول ابن حجر : وأوضح منه أن يقال معناه أن الله جعل ابتداء مدته حاصلا بعد رؤيته فغير واضح ، بل فاسد لأن الضمير في أمده راجع إلى شعبان ، وفي لرؤيته إلى رمضان ، وعلى تقدير أن يكون الضميران لرمضان كما وهم لا معنى إلى لأمر رمضان لرؤية رمضان ، ولا دلالة على الابتداء في الحديث أصلا ، ولو قلنا إن اللام بمعنى بعد فالمعنى أطال مدة رمضان بعد رؤية هلاله لصح المعنى في الجملة ، لكن لا يصلح جوابا لابن عباس عن سؤالهم إياه ، فتدبر " فإن أغمي عليكم " يقال أغمي عليه الخبر أي استعجم مثل غم ، أي فإن أخفي عليكم بنحو غيم " فأكملوا العدة " أي عدد شعبان ثلاثين يوما ( رواه مسلم ) قال ابن حجر : ولا ينافي هذه الرواية ما قبلها لاحتمال أنهم تراءوه بذات عرق ، وتنازعوا فيه فأرسلوا يسألونه ، فأجابهم بذلك ، فلما وصلوا بطن نخلة رأوه فسألوه شفاها ، فأجابهم بما يطابق الجواب ، وحاصلهما أنه لا بد في الحكم بدخول رمضان ليلة ثلاثين شعبان من رؤية هلاله واستفيد منه قوله لليلة رأيتموه أن لا عبرة برؤية الهلال قبل الغروب ، وإنه لو رؤي ليلة ثلاثين شعبان أو رمضان نهارا قبل الزوال أو بعده لم يحكم لليلة الماضية ولا المستقبلة ، فلا يفطره من رمضان ولا يمسكه من شعبان ، بل إن رؤي بعد الغروب حكم به للمستقبلة ، وإلا فلا للخبر السابق : " صوموا لرؤيته " ، ولما صح أن عمر - رضي الله عنه - أرسل إلى جند له بالعراق : إن هذه الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيت الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس ، وصح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن ناسا رأوا هلال الفطر نهارا فأتم صيامه إلى الليل ، وقال : لا ، حتى يرى من حيث يرى بالليل ، وفي رواية : لا يصلح أن نفطر حتى تروه ليلا من حيث يرى ، قال البيهقي وروينا في ذلك عن عثمان وابن مسعود ، قال غيره : وعن علي وأنس ، ولا مخالف لهم ، وروى مالك بلاغا أن الهلال رؤي زمن عثمان بعشي فلم يفطر حتى أمسى ، وقال جمع من السلف : إن رؤي قبل الزوال فللماضية أو بعده فللمستقبلة ، ولم يقل أحد إنه لو رؤي يوم التاسع والعشرين يكون للماضية لاستحالة كون الشهر ثمانية وعشرين اهـ ، وبه يتأيد المعتمد من مذهبنا أن صوم يوم الشك حرام ، ويندفع اعتماد ما نقل عن نص الشافعي وجمهور أصحابه أن صومه مكروه لا حرام اهـ ، وفي اندفاع الاعتماد يحتاج إلى أمر يصح فيه الاستناد ، ثم قال : وإنما لم يسن صومه إذا أطبق الغيم لقول أحمد بوجوبه ، لأن الخلاف إذا خالف سنة صحيحة لا يراعى اهـ وفيه أن هذا مجازفة صريحة ، والحق مذهبنا المتوسط الأعدل ، فتأمل لئلا تقع في الوجل .




الخدمات العلمية