الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والكفارة عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في يوم من شهر رمضان أن يعتق رقبة ، قال : لا أجد ، قال : صم شهرين متتابعين ، قال : لا أستطيع ، قال : أطعم ستين مسكينا ، قال : لا أجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا قال : خذه وتصدق به ، قال : على أفقر من أهلي ، والله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجزه قال : خذه ، واستغفر الله تعالى وأطعم أهلك } فإن قلنا : يجب عليه دونها اعتبر حاله فإن كان من أهل العتق أعتق ، وإن كان من أهل الصوم صام وإن كان من أهل الإطعام [ ص: 364 ] أطعم ( وإن قلنا ) يجب على كل واحد منهما كفارة اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه ، فمن كان من أهل العتق أعتق ، ومن كان من أهل الصوم صام ، ومن كان من أهل الإطعام أطعم كرجلين أفطرا بالجماع .

                                      ( فإن قلنا ) يجب عليه كفارة عنه وعنها اعتبر حالهما ، فإن كان من أهل العتق أعتق ، وإن كان من أهل الإطعام أطعم ، وإن كان من أهل الصيام وجب على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين ; لأن الصوم لا يحتمل ، وإن اختلف حالهما نظرت - فإن كان الرجل من أهل العتق وهي من أهل الصوم - أعتق رقبة ويجزئ عنهما ; لأن من فرضه الصوم إذا أعتق أجزأه ، وكان ذلك أفضل من الصوم ، وإن كان من أهل الصوم وهي من أهل الإطعام لزمه أن يصوم شهرين ويطعم عنها ستين مسكينا ; لأن النيابة تصح في الإطعام ، وإنما أوجبنا كفارتين ; لأن الكفارة لا تتبعض ، فوجب تكميل نصف كل واحد ، منهما وإن كان الرجل من أهل الصوم وهي من أهل العتق صام عن نفسه شهرين ، وأعتق عنها رقبة ، وإن كان من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم أطعم عن نفسه ولم يصم عنها ; لأن الصوم ، لا تدخله النيابة ، وإن كانت المرأة أمة وقلنا : إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزئ عنها عتق ( فإن قلنا ) : إنها تملك المال أجزأ عنها العتق كالحرة المعسرة . وإن قدم الرجل من السفر وهو مفطر وهي صائمة فقالت : أنا مفطرة فوطئها ، فإن قلنا : إن الكفارة عليه ، لم يلزمه ولم يلزمها ، وإن قلنا : إن الكفارة عنه وعنها ، وجب عليها الكفارة في مالها ، لأنها غرته بقولها : إني مفطرة . وإن أخبرته بصومها فوطئها وهي مطاوعة ، فإن قلنا : إن الكفارة عنه دونها لم يجب عليه شيء ، وإن قلنا : إن الكفارة عنه وعنها ، لزمه أن يكفر عنها إن كانت من أهل العتق أو الإطعام ، وإن كانت من أهل الصيام لزمها أن تصوم .

                                      وإن وطئ المجنون زوجته وهي صائمة مختارة - فإن قلنا : إن الكفارة عنه دونها - لم تجب ، وإن قلنا : تجب عنه وعنها ، فهل يتحمل الزوج ؟ فيه وجهان . قال أبو العباس : لا يتحمل ; لأنه لا فعل له ، وقال أبو إسحاق : يتحمل ; لأنها وجبت بوطئه ، والوطء كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله ، وإن كان الزوج نائما فاستدخلت المرأة ذكره فإن قلنا : الكفارة عنه دونها [ ص: 365 ] فلا شيء عليه ، وإن قلنا : عنهما ، لم يلزمه كفارة ; لأنه لم يفطر ويجب عليها أن تكفر ولا يتحمل الزوج ; لأنه لم يكن من جهته فعل ، وإن زنى بها في رمضان فإن قلنا : إن الكفارة عنه دونها وجبت عليه كفارة ، وإن قلنا : عنه وعنها ، وجب عليهما كفارتان ، ولا يتحمل الرجل كفارتها ، لأن الكفارة إنما تتحمل بالملك ولا ملك ههنا ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه سبق بيانه قريبا ، وأما الكفارة فأصلها من الكفر ، بفتح الكاف ، وهو الستر ، لأنها تستر الذنب وتذهبه . هذا أصلها ثم استعملت فيما وجد فيه صورة مخالفة أو انتهاك ، وإن لم يكن فيه إثم كالقاتل خطأ وغيره .

                                      وأما قولهم ( عتق رقبة ) فقال الأزهري : إنما قيل لمن أعتق نسمة وأعتق رقبة وفك رقبة ، فخصت الرقبة دون بقية الأعضاء ; لأن حكم السيد وملكه كالحبل في رقبة العبد وكالغل المانع له من الخروج عنه ، فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك وسيأتي تهذيب العتق في بابه إن شاء الله تعالى . وقوله في الكتاب ( بعرق تمر ) هو بفتح العين والراء ويقال أيضا : بإسكان الراء ، والصحيح المشهور فتحها ويقال له أيضا : المكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق والزنبيل بكسر الزاي والزنبيل بفتحها ، والقفة والسفيفة بفتح السين المهملة وبفاء مكررة ، وكله اسم لهذا الوعاء المعروف ، ليس لسعته قدر مضبوط ، بل قد يصغر ويكبر ، ولهذا قال في الحديث في الكتاب ، وهو رواية أبي داود " فيه خمسة عشر صاعا " وقوله { ما بين لابتي المدينة } يعني حرتيها ، والحرة هي الأرض المكبسة حجارة سوداء ، ويقال لها لابة ولوبة ونوبة بالنون ، وقد أوضحتها في التهذيب وقوله { حتى بدت أنيابه } وفي بعض نسخ المهذب " نواجذه " وكلاهما ثابت في الحديث الصحيح ، والنواجذ هي الأنياب .

                                      هذا هو الصحيح في اللغة ، وهو متعين هنا جمعا بين الروايتين ، ويقال : هي الأضراس ، وهي بالذال المعجمة ، وقول المصنف : وإن كانت أمة وقلنا : إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزئ عنها العتق وإن قلنا : إنها تملك أجزأ عنها العتق ، هكذا يقع عنها العتق وإن قلنا : إنها تملك أجزأ عنها العتق هكذا يقع في كثير من النسخ [ ص: 366 ] ولا يجزئ عنها العتق ، وفي أكثر النسخ " ولا يجب " والأول أصوب ، والله تعالى أعلم .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار فيجب عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور ، وصفة هذه الرقبة وبيان العجز عنها المجوز للانتقال إلى الصوم ، والعجز عن الصوم المجوز للانتقال إلى الطعام وبيان التتابع ما يقطعه ، والإطعام وما يتعلق بذلك كله مستقصى في كتاب الكفارات عقب كتاب الظهار ، وقد سبق فيمن يتعلق به وجوب الكفارة ثلاثة أقوال ( أصحها ) تجب الكفارة على الرجل عن نفسه فقط ، ولا شيء على المرأة ولا يلاقيها الوجوب .

                                      ( والثاني ) تجب عليه الكفارة وتكون عنه وعنها ، وهي كفارة واحدة .

                                      ( والثالث ) تجب عليه كفارة وعليها كفارة أخرى قال المصنف والأصحاب : فإن قلنا بالأول اعتبر حاله فإن كان من أهل العتق أعتق ، وإن كان من أهل الصوم صام ، وإن كان من أهل الإطعام أطعم ولا نظر إلى المرأة ; لأنه لا يتعلق بها وجوب . وإن قلنا بالقول الثالث اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه ، فمن كان منهما من أهل العتق أعتق ، ومن كان من أهل الصوم صام ، ومن كان من أهل الإطعام أطعم ، ولا يلزم واحدا منهما موافقة صاحبه إذا اختلفت صفتهما ، بل هما كرجلين أفطرا بالجماع فيعتبر كل واحد منهما بانفراده .

                                      ( وإن قلنا ) بالقول الثاني وهو أنه يلزمه كفارة واحدة عنه وعنها ، فهذا محل التفصيل والتفريع الطويل ، قال المصنف والأصحاب : على هذا القول قد يتفق حالهما ، وقد يختلف ، فإن اتفق نظر - إن كانا جميعا من أهل العتق - أعتق الرجل رقبة عنهما ، وإن كانا من أهل [ ص: 367 ] الإطعام أطعم ستين مسكينا عنهما ، وإن كانا من أهل الصيام بأن كانا مملوكين أو حرين معسرين لزم كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين ، ; لأن العبادة البدنية لا تتحمل .

                                      ( وأما ) إذا اختلف حالهما فقد يكون أعلى حالا منها ، وقد يكون أدنى ، فإن كان أعلى نظر - إن كان من أهل العتق ، وهي من أهل الصوم أو الإطعام - فوجهان حكاهما الخراسانيون ( الصحيح ) منهما ، وبه قطع العراقيون : يجزئ الإعتاق عنهما ; لأن من فرضه الصوم أم الإطعام إذا تكلف العتق أجزأه وقد زاد خيرا ، وهو أفضل ، كذا قال المصنف والأصحاب : قال أصحابنا : إلا أن تكون المرأة أمة فعليها الصوم ; لأن العتق لا يجزئ عنها ; لأنه يتضمن الولاء وليست من أهله هكذا أطلقه الأصحاب ، وقال المصنف وهنا : لا يجزئ عنها العتق إلا إذا قلنا : إن العبد يملك بالتمليك فإنه يجزئ عنها كالحرة المعسرة ، وهذا الذي قاله غريب ، والمعروف في كتب الأصحاب أنه لا يجزئ العتق عن الأمة قولا واحدا .

                                      وقد صرح المصنف بذلك في المهذب في باب العبد المأذون فقال : لا يصح إعتاق العبد سواء قلنا : يملك أم لا ; لأنه يتضمن الولاء وليس هو من أهله ، والله تعالى أعلم .

                                      ( والوجه الثاني ) من الوجهين السابقين عن الخراسانيين : لا يجزئ الإعتاق عن المرأة لاختلاف الجنس ، فعلى هذا يلزمها الصوم إن كانت من أهله ، وفيمن يلزمه الإطعام عنها إن كانت من أهله وجهان .

                                      ( أحدهما ) يلزمها ; لأن الزوج أخرج وظيفته وهي العتق ( وأصحهما ) يلزم الزوج ، فإن عجز ثبت في ذمته إلى أن يقدر ; لأن الكفارة على هذا القول معدودة من مؤن الزوجة الواجبة على الزوج .

                                      ( أما ) إذا كان من أهل الصيام وهي من أهل الإطعام ، فإن تكلف الإعتاق فأعتق رقبة أجزأت عنهما جميعا فأما إن أراد الصيام . فقال المصنف والأصحاب : يلزمه أن يصوم عن نفسه ، ويلزمه أيضا أن يطعم عنها ، قالوا : لأن النيابة تصح فيهما ، قالوا : وإنما أوجبنا كفارتين ; لأن الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل كل نصف منها ، هكذا قطع به المصنف والأصحاب . [ ص: 368 ] قال الرافعي : ومقتضى الوجه الصحيح الذي قطع به العراقيون في الصورة السابقة في إجزاء الإعتاق عنهما عن الصيام أن يجزئ هنا الصيام عن الإطعام ، هذا كله إذا كان الزوج أعلى حالا منها ، فإن كان أدنى نظر فإن كان من أهل الإطعام وهي من أهل الصيام أطعم عن نفسه ، ولزمها الصيام عن نفسها ; لأنه لا نيابة فيه وإن كان من أهل الصيام أو الإطعام وهي من أهل الإعتاق صام عن نفسه أو أطعم ولزمه الإعتاق عنها إذا قدر ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا كان الزوج مجنونا فوطئها وهي صائمة مختارة ( فإن قلنا ) على كل واحد كفارة ، لزمتها الكفارة في مالها ، وإن قلنا : تجب الكفارة عنه دونها ، فلا شيء عليه ولا عليها ، ( وإن قلنا ) تجب كفارة عنه وعنها ، فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب ( أصحهما ) يلزمها الكفارة في مالها ، ولا يتحملها الزوج ; لأنه ليس أهلا للتحمل ، كما لا تلزمه عن فعل نفسه ، ولأنه لا فعل له ، وهذا قول ابن سريج ، وبه قطع البندنيجي .

                                      ( والثاني ) قاله أبو إسحاق تجب الكفارة في مال المجنون عنها ; لأن ماله صالح للتحمل ولأنها وجبت بوطئه ، والوطء كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله ، وإن كان الزوج مراهقا فهو كالمجنون ، هذا هو المذهب ; لأنه ليس مكلفا ، وفيه وجه أنه كالبالغ تخريجا من قولنا : عمده عمد ، وإن كان ناسيا أو نائما فاستدخلت ذكره فكالمجنون وقطع المصنف والبغوي وآخرون بأنا إذا قلنا : الكفارة عنه وعنها وجبت في مسألة الاستدخال في مالها ; لأنه لا فعل للزوج ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو كان الزوج مسافرا صائما وهي حاضرة صائمة ، فإن أفطر بالجماع بنية الترخص فلا كفارة عليه عن نفسه بلا خلاف ، وإن لم يقصد به الترخص فوجهان مشهوران في طريقة خراسان ( أصحهما ) لا كفارة عليه أيضا ، لأنه لا يلزمه الصوم فصار كقاصد الترخص . قال أصحابنا : وهكذا حكم المريض الذي يباح له الأكل إذا أصبح صائما فجامع وكذا الصحيح إذا مرض في أثناء النهار ثم جامع ، فحيث قلنا بوجوب الكفارة عليه فهو كغيره ، فيجيء في الكفارة الأقوال الثلاثة ، وحكم التحمل ما سبق ، وحيث [ ص: 369 ] قلنا : لا كفارة فهو كالمجنون .



                                      قال المصنف والأصحاب : ولو قدم المسافر مفطرا فأخبرته أنها مفطرة وكانت صائمة فوطئها - فإن قلنا : الكفارة عنه فقط - فلا شيء عليه ولا عليها ، وإن قلنا : عنه وعنها ، وجبت الكفارة عليها في مالها ; لأنها غرته . هكذا قالوه واتفقوا عليه . قال الرافعي : ويشبه أن يكون هذا تفريعا على قولنا : المجنون لا يتحمل وإلا فليس العذر هنا بأوضح منه في المجنون ( قلت ) الفرق أنه لا تغرير منها في صورة المجنون ، أما إذا قدم المسافر مفطرا فأخبرته بصومها فوطئها مطاوعة ، فإن قلنا : الكفارة عنه فقط ، فلا شيء عليه ولا عليها ، وإن قلنا : عنه وعنها ، لزمه أن يكفر عنها إن كانت من أهل العتق أو الإطعام ، وإن كانت من أهل الصيام لزمها الصيام والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) إذا أكرهها على الوطء وهما صائمان في الحضر فلهما حالان ( أحدهما ) أن يقهرها بربطها أو بغيره ويطأ فلا تفطر هي ، ويجب عليه كفارة عنه قطعا ( والثاني ) أن يكرهها حتى تمكنه ففي فطرها قولان سبقا ( أصحهما ) لا تفطر فيكون كالحال الأول ( والثاني ) تفطر وعليهما الكفارة ، وتكون الكفارة عليه وحده قطعا .

                                      ( فرع ) هذا الذي سبق كله فيما إذا وطئ زوجته ، فلو زنى بامرأة أو وطئها بشبهة فطريقان ( أحدهما ) القطع بوجوب كفارتين على كل واحد منهما كفارة ; لأن التحمل بسبب الزوجية ولا زوجية هنا ( وأصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور أنه إن قلنا : الكفارة عنه خاصة ، فعليه كفارة ولا شيء عليها ، وإن قلنا : عنه وعنها ، فعليهما في مالهما كفارة أخرى ، لما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية