الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب البغاة [ ص: 261 ] البغي لغة الطلب ، ومنه { - ذلك ما كنا نبغ - } وعرفا : طلب ما لا يحل من جور وظلم فتح . وشرعا ( هم الخارجون عن الإمام الحق بغير حق ) فلو بحق فليسوا ببغاة ، وتمامه في جامع الفصولين . - [ ص: 262 ] ثم الخارجون عن طاعة الإمام ثلاثة : قطاع طريق وعلم حكمهم . وبغاة ويجيء حكمهم وخوارج وهم قوم لهم منعة خرجوا عليه بتأويل يرون أنه على باطل كفر أو معصية توجب قتاله بتأويلهم ، ويستحلون دماءنا وأموالنا ويسبون نساءنا ، ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ، وحكمهم حكم البغاة بإجماع الفقهاء كما حققه في الفتح وإنما لم نكفرهم لكونه عن تأويل وإن كان باطلا ، - [ ص: 263 ] بخلاف المستحيل بلا تأويل كما مر في باب الإمامة .

التالي السابق


باب البغاة أخره لقلة وجوده ، ولبيان حكم من يقتل من المسلمين بعد من يقتل من الكفار بحر . قلت : ولم يترجم له بكتاب إشارة إلى دخوله تحت كتاب الجهاد لأن القتال معهم في سبيل الله تعالى ولذا كان المقتول منا شهيدا كما سيأتي إذ لا يختص الجهاد بقتال الكفار ، وبه اندفع ما في النهر . قال في الفتح : والبغاة [ ص: 261 ] جمع باغ ، وهذا الوزن مطرد في كل اسم فاعل معتل اللام كغزاة ورماة وقضاة ا هـ وإنما جمعه لأنه قلما يوجد واحد يكون له قوة الخروج قهستاني ( قوله البغي لغة الطلب إلخ ) عبارة الفتح : البغي في اللغة الطلب ، بغيت كذا : أي طلبته . قال تعالى حكاية ذلك { - ما كنا نبغ - } ثم اشتهر في العرف في طلب ما لا يحل من الجور والظلم والباغي في عرف الفقهاء الخارج على إمام الحق ا هـ لكن في المصباح : بغيته أبغيه بغيا طلبته ، وبغى على الناس بغيا : ظلم واعتدى فهو باغ والجمع بغاة ، وبغى : سعى في الفساد ، ومنه الفرقة الباغية ; لأنها عدلت عن القصد ، وأصله من بغى الجرح : إذا ترامى إلى الفساد ا هـ وفي القاموس : الباغي الطالب ، وفئة باغية : خارجة عن طاعة الإمام العادل . ا هـ . قال في البحر : فقوله في فتح القدير : الباغي في عرف الفقهاء الخارج عن إمام الحق تساهل لما علمت أنه في اللغة أيضا . ا هـ . قلت : قد اشتهر أن صاحب القاموس يذكر المعاني العرفية مع المعاني اللغوية وذلك مما عيب به عليه ، فلا يدل ذكره لذلك أنه معنى لغوي ، ويؤيده أن أهل اللغة لا يعرفون معنى الإمام الحق الذي جاء في الشرع بعد اللغة نعم قد يعترض على الفتح بأن كلامه يقتضي اختصاص البغي بمعنى الطلب ، وأن استعماله في الجور والظلم معنى عرفي فقط ، وقد سمعت أنه لغوي أيضا . وقد يجاب بأن مراده بقوله ثم اشتهر في العرف إلخ العرف اللغوي ، وأن الأصل ومدار اللفظ على معنى الطلب لكن ينافيه قول المصباح وأصله من بغى الجرح إلخ فتأمل ( قوله : وشرعا هم الخارجون ) عطفه على ما قبله يقتضي أن يكون التقدير والبغي شرعا هم الخارجون وهو فاسد كما أفاده ح فكان المناسب أن يقول : فالبغاة عرفا الطالبون لما لا يحل من جور وظلم وشرعا إلخ أفاده ط . ويمكن أن يكون على تقدير مبتدإ : أي والبغاة شرعا إلخ ( قوله : على الإمام الحق ) الظاهر أن المراد به ما يعم المتغلب ; لأنه بعد استقرار سلطنته ونفوذ قهره لا يجوز الخروج عليه كما صرحوا به ثم رأيت في الدر المنتقى قال : إن هذا في زمانهم ، وأما في زماننا فالحكم للغلبة ; لأن الكل يطلبون الدنيا فلا يدرى العادل من الباغي كما في العمادية . ا هـ . وقوله بغير حق أي في نفس الأمر وإلا فالشرط اعتقادهم أنهم على حق بتأويل وإلا فهم لصوص

ويأتي تمام بيانه ( قوله : وتمامه في جامع الفصولين ) حيث قال في أول الفصل الأول : بيانه أن المسلمين إذا اجتمعوا على إمام وصاروا آمنين به فخرج عليه طائفة من المؤمنين ، فإن فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به فهم ليسوا من أهل البغي ، وعليه أن يترك الظلم وينصفهم . ولا ينبغي للناس أن يعينوا الإمام ، عليهم ; لأن فيه إعانة على الظلم ، ولا أن يعينوا تلك الطائفة على الإمام أيضا ; لأن فيه إعانة على خروجهم على الإمام ، وإن لم يكن ذلك لظلم ظلمهم ولكن لدعوى الحق والولاية فقالوا الحق معنا فهم أهل البغي ، فعلى كل من يقوى على القتال أن ينصروا إمام المسلمين على هؤلاء الخارجين ; لأنهم ملعونون على لسان صاحب الشرع قال عليه الصلاة والسلام { الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها } فإن كانوا تكلموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد . فليس للإمام أن يتعرض لهم ; لأن العزم على الجناية لم يوجد بعد كذا ذكر في واقعات اللامشي ، وذكر القلانسي في تهذيبه قال بعض المشايخ : لولا علي رضي الله عنه ما درينا القتال مع أهل القبلة ، وكان علي ومن تبعه من أهل العدل وخصمه من أهل البغي ، وفي زماننا الحكم للغلبة ولا تدري [ ص: 262 ] العادلة والباغية كلهم يطلبون الدنيا . ا هـ .

ط لكن قوله ولا أن يعينوا تلك الطائفة على الإمام فيه كلام سيأتي ( قوله : قطاع طريق ) وهم قسمان : أحدهما الخارجون بلا تأويل بمنعة وبلا منعة ، يأخذون أموال المسلمين ويقتلونهم ويخيفون الطريق .

والثاني قوم كذلك ، إلا أنهم لا منعة لهم لكن لهم تأويل ، كذا في الفتح ، لكنه عد الأقسام أربعة ، وجعل هذا الثاني قسما منهم مستقلا ملحقا بالقطاع من جهة الحكم . وفي النهر : هنا تحريف فتنبه له ( قوله : وبغاة ) هم كما في الفتح قوم مسلمون خرجوا على إمام العدل ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم ا هـ والمراد خرجوا بتأويل وإلا فهم قطاع كما علمت . وفي الاختيار : أهل البغي كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون ويقاتلون أهل العدل بتأويل يقولون الحق معنا ويدعون الولاية . ا هـ . ( قوله : وخوارج وهم قوم إلخ ) الظاهر أن المراد تعريف الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه ; لأن مناط الفرق بينهم وبين البغاة هو استباحتهم دماء المسلمين وذراريهم بسبب الكفر إذ لا تسبى الذراري ابتداء بدون كفر ، لكن الظاهر من كلام الاختيار وغيره أن البغاة أعم ، فالمراد بالبغاة ما يشمل الفريقين ، ولذا فسر في البدائع البغاة بالخوارج لبيان أنهم منهم وإن كان البغاة أعم ، وهذا من حيث الاصطلاح ، وإلا فالبغي والخروج متحققان في كل من الفريقين على السوية ، ولذا قال علي رضي الله تعالى عنه في الخوارج : إخواننا بغوا علينا ( قوله : لهم منعة ) بفتح النون : أي عزة في قومهم ، فلا يقدر عليهم من يردهم مصباح ( قوله : بتأويل ) أي بدليل يؤولونه على خلاف ظاهره كما وقع للخوارج الذين خرجوا من عسكر علي عليه بزعمهم أنه كفر هو ومن معه من الصحابة حيث حكم جماعة في أمر الحرب الواقع بينه وبين معاوية وقالوا إن الحكم إلا لله ، ومذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر ; وأن التحكيم كبيرة لشبه قامت لهم استدلوا بها مذكورة مع ردها في كتب العقائد . مطلب في أتباع عبد الوهاب الخوارج في زماننا

( قوله : ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ) علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج ، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه ، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه ، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة ، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون ، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم حتى كسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف ( قوله : كما حققه في الفتح ) حيث قال : وحكم الخوارج عند جمهور الفقهاء والمحدثين حكم البغاة . وذهب بعض المحدثين إلى كفرهم . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم ، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء . مطلب في عدم تكفير الخوارج وأهل البدع

وقد ذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع . وبعضهم يكفر من خالف منهم ببدعته [ ص: 263 ] دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة والنقل الأول أثبت نعم يقع في كلام أهل مذهب تكفير كثير ، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم . مطلب لا عبرة بغير الفقهاء يعني المجتهدين

ولا عبرة بغير الفقهاء ، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين ا هـ لكن صرح في كتابه المسايرة بالاتفاق على تكفير المخالف فيما كان من أصول الدين وضرورياته : كالقول بقدم العالم ، ونفي حشر الأجساد ، ونفي العلم بالجزئيات ، وأن الخلاف في غيره كنفي مبادئ الصفات ، ونفي عموم الإرادة ، والقول بخلق القرآن إلخ . وكذا قال في شرح منية المصلي : إن ساب الشيخين ومنكر خلافتهما ممن بناه على شبهة له لا يكفر ، بخلاف من ادعى أن عليا إله وأن جبريل غلط ; لأن ذلك ليس عن شبهة واستفراغ وسع في الاجتهاد بل محض هوى ا هـ وتمامه فيه .

قلت : وكذا يكفر قاذف عائشة ومنكر صحبة أبيها ; لأن ذلك تكذيب صريح القرآن كما مر في الباب السابق ( قوله : بخلاف المستحل بلا تأويل ) أي من يستحل دماء المسلمين وأموالهم ونحو ذلك مما كان قطعي التحريم ولم يبنه على دليل كما بناه الخوارج كما مر ; لأنه إذا بناه على تأويل دليل من كتاب أو سنة كان في زعمه إتباع الشرع لا معارضته ومنابذته ، بخلاف غيره




الخدمات العلمية