الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنبا ، أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناها بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى . أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) [ الأعراف : 189 ] إلى آخر الآية . قالوا : لا شك أن النفس الواحدة هي آدم ، وزوجها المخلوق منها هي حواء ، فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما ، فقوله : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) [الأعراف : 190] يقتضي صدور الشرك عنهما ، والجواب : لا نسلم أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول : الخطاب لقريش وهم آل قصي ، والمعنى خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي ، والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما ، فهذا الجواب هو المعتمد .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قالوا : إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول فلأنه قال في الكواكب : ( هذا ربي ) [ الأنعام : 77 ] وأما الثاني فقوله : ( أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] ، والجواب : أما قوله : ( هذا ربي ) فهو استفهام على سبيل الإنكار ، وأما قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) ، فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : تمسكوا بقوله تعالى : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) [ يونس : 94 ] ، فدلت الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان في شك مما أوحي إليه . والجواب : أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة : أحدها : قوله : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 ] فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي ، الجواب : ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر ، لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك ، فنحمله على ترك الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) [ الحج : 52 ] ، والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) [الجن : 27] ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) [ الجن : 28 ] قالوا : فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة . والجواب : لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة . أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة ، أحدها : قوله : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) [ الأنبياء : 78 ] ، وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي صلى الله عليه وسلم ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) [ الأنفال : 67 ] ، فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب ، وثالثها : قوله تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43 ] ، والجواب عن الكل : أنا نحمله على ترك الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة ، أولها : قصة آدم عليه السلام ، تمسكوا بها من سبعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه كان عاصيا والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة ، وإنما قلنا : إنه كان عاصيا لقوله تعالى : ( وعصى آدم ربه فغوى ) [ طه : 121 ] وإنما قلنا : إن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن النص يقتضي كونه معاقبا ؛ لقوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ) [ الجن : 23 ] فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن العاصي اسم ذم فوجب أن لا يتناول إلا صاحب الكبيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاويا ؛ لقوله تعالى : ( فغوى ) [طه : 121] والغي ضد الرشد ؛ لقوله تعالى : ( قد تبين الرشد من الغي ) [ البقرة : 256 ] ، فجعل الغي مقابلا للرشد .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه تائب والتائب مذنب ، وإنما قلنا : إنه تائب ؛ لقوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) [ البقرة : 37 ] وقال : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه ) [ طه : 122 ] وإنما قلنا : التائب مذنب ؛ لأن التائب [ ص: 12 ] هو النادم على فعل الذنب ، والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلا الذنب ، فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب ، وإن صدق فيه فهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أنه ارتكب المنهي عنه في قوله : ( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) [ الأعراف : 22 ] ، ( ولا تقربا هذه الشجرة ) [ الأعراف : 19 ] ، وارتكاب المنهي عنه عين الذنب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : سماه ظالما في قوله : ( فتكونا من الظالمين ) [ البقرة : 35 ] وهو سمى نفسه ظالما في قوله : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] والظالم ملعون ؛ لقوله تعالى : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسرا في قوله : ( وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] ، وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان ، وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة ، ثم قالوا : هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلا للكبيرة ، لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعا في الدلالة عليه ، ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء ، لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالا على الشيء . والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول : كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة ، وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال : إن آدم عليه السلام حال ما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبيا ؛ ثم بعد ذلك صار نبيا ؟ ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام . وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات . ولنذكر ههنا كيفية تلك الزلة ليظهر مراد الله تعالى من قوله : ( فأزلهما الشيطان ) فنقول : لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم عليه السلام بعد النبوة ، فإقدامه على ذلك الفعل إما أن يكون حال كونه ناسيا أو حال كونه ذاكرا ، أما الأول : وهو أنه فعله ناسيا فهو قول طائفة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهيا عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو [ لا ] عن قصد ، لا يقال هذا باطل من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله تعالى : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ) [ الأعراف : 20 ] ، وقوله : ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) [ الأعراف : 20 ] يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام . وروي عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة ، فحبسته فناداه الله تعالى أفرارا مني ، فقال : بل حياء منك ، فقال له : أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك ؟ قال : بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحدا يحلف بك كاذبا ، فقال : وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كدا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وهو أنه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل ، أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل ، فلا يكون مكلفا به ؛ لقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام : " رفع القلم عن ثلاث " ، فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل [ ص: 13 ] النسيان ؛ لأنا نقول : أما الجواب عن الأول فهو أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه ؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة ؛ لأن إبليس لما قال لهما : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ الأعراف : 20 ] فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه ، وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحا لهما ، وأن الرب تعالى قد غشهما ، ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة ، فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد ، وأيضا كان آدم عليه السلام عالما بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضا له وحاسدا له على ما آتاه الله من النعم ، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن ، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده ، ويدل على أن آدم كان عالما بعداوته ؛ لقوله تعالى : ( إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) [ طه : 117 ] . وأما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد ، فكيف يعارض القرآن ؟ وأما الجواب عن الثاني : فهو أن العتاب إنما حصل على ترك التحفظ من أسباب النسيان ، وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به ، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى : ( يانساء النبي لستن كأحد من النساء ) [ الأحزاب : 32 ] ، ثم قال : ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) [ الأحزاب : 30 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " . وقال أيضا : " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم " ، فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم ؟ قلنا : أما سمعت : " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ، ولقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره . فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان . ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك . قالوا : وهذا ليس ببعيد ؛ لأنه عليه السلام كان مأذونا له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة ، فإذا حملنا الشجرة على البر ، كان مأذونا في تناول الخمر ، ولقائل أن يقول : إن خمر الجنة لا يسكر ؛ لقوله تعالى في صفة خمر الجنة : ( لا فيها غول ) [ الصافات : 47 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الثاني : وهو أنه عليه السلام فعله عامدا فههنا أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم ، وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أنه كان ذلك عمدا من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبيا ، وقد عرفت فساد هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : أنه عليه السلام فعله عمدا ، لكن كان معه من الوجل والفزع والإشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة ، وهذا القول أيضا باطل بالدلائل المتقدمة ؛ لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا وإن فعله مع الخوف ، إلا أنه يكون مع ذلك عاصيا مستحقا للعن والذم والخلود في النار ، ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك ؛ ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله : ( فنسي ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] ، وذلك ينافي العمدية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : وهو اختيار أكثر المعتزلة : أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) فلفظ ( هذه ) [ ص: 14 ] قد يشار به إلى الشخص ، وقد يشار به إلى النوع ، وروي أنه عليه السلام أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : " هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم " ، وأراد به نوعهما ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة وقال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " ، وأراد نوعه ، فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة ، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع ، إلا أنه كان مخطئا في ذلك الاجتهاد ؛ لأن مراد الله تعالى من كلمة ( هذه ) كان النوع لا الشخص ، والاجتهاد في الفروع ، إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن ؛ لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا ، فإن قيل : الكلام على هذا القول من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كلمة ( هذا ) في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر ، والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئا معينا ، فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع ، فذاك على خلاف الأصل ، وأيضا فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص ، فكان ما عداه خارجا عن النهي لا محالة ، إذا ثبت هذا فنقول : المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته ، فآدم عليه السلام لما حمل لفظ ( هذا ) على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع ، واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : ( وكلا منها رغدا حيث شئتما ) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل ، والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين ، فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذونا له في الانتفاع بسائر الأشجار ، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتابا وأن يحكم عليه بكونه مخطئا فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه ، يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيبا لا مخطئا ، وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في الاعتراض على هذا التأويل . هب أن لفظ ( هذا ) متردد بين الشخص والنوع ، ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك ؟ فإن كان الأول فإما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان ، فحينئذ يكون قد أتى بالذنب ، وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع ، فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداما على الذنب قصدا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن ، وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم ، أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين ، فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلا وشرعا ، وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية ، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيرا وحينئذ يعود الإشكال ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، فلا يتحقق الخطأ فيها أصلا ، وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطئ فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سببا لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض ؟ والجواب عن الأول : [ ص: 15 ] أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه ، وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع . والجواب عن الثاني : هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل ؛ لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال ، أو يقال : إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة ، فلما طالت المدة غفل عنه ؛ لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثالث : أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد ، فإنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها لكنه قد نسيها ، وهو المراد من قوله تعالى : ( فنسي ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] والجواب عن الرابع : يمكن أن يقال : كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذرا في أن لا يصير الذنب كبيرا أو يقال : كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين ؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص ، وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) ونهاهما معا فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها ؛ لأن قوله : ( ولا تقربا ) نهي لهما على الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد ، فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه ، فهذا جملة ما يقال في هذا الباب والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية