الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الحكم العاشر : الأكل منها ، وفي ( الكتاب ) : يؤكل من الهدي كله واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ونذر المساكين ، فإن أكل فلا يجزئه وعليه البدل ، وقال ( ح ) : يأكل من التطوع وهدي التمتع والقران ; لأنهما لم يجبا بسبب محرم فلم يحرما عليه كالتطوع ، وقال ( ش ) : يأكل من التطوع دون ما وجب في الإحرام ، واختلف أصحابه في النذر ; لأنه هدي واجب كفدية الأذى وجزاء الصيد ، لنا قوله تعالى : ( فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ) [ الحج 36 ] وهو عام خص منه جزاء الصيد ; لأن بدله الذي هو الإطعام مستحق [ ص: 367 ] عليه للغير فيكون هو مستحقا عليه للغير ، فلا يأكل منه كبدله ، وكذا فدية الأذى ونذر المساكين فإن أكل من الثلاثة ضمن في جزاء الصيد ما قل أو كثر ، وعليه البدل ، قال ابن القاسم : ولا أدري قول مالك في نذر المساكين ، وأرى أن يطعم المساكين قدر ما أكل ولا يكون عليه البدل ; لأنه عند مالك ليس مثل الأول ، وإنما يستحب ترك الأكل منه ، قال : وإذا هلك هدي التطوع قبل محله تصدق به ، ولا يأكل منه ; لأنه غير مضمون عليه وليس عليه بدله ، فإن أكل فعليه البدل لاتهامه في ذبحه ، وكل هدي مضمون هلك قبل محله فله الأكل منه والإطعام للغني والفقير ، ولا يبع منه لحما ولا جلا ولا جلدا ولا خطاما ولا قلائد ، ولا يستعين بذلك في غير الأول ، والمبعوث معه بالهدي يأكل من كل هدي إلا الثلاثة المتقدمة ، إلا أن يكون مسكينا ، وفي مسلم ( لما بعث عليه السلام الهدي مع ناجية الأسلمي قال له : أرأيت إن أزحف منها شيء على معنى ضعف عن المشي ، يقال : زحف البعير إذا خر من سنامه على الأرض من الإعياء . وأوجفه السير فقال له عليه السلام : انحره واخضب نعلها بدمها ، واضرب بها صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك ) ، قال سند : حكى محمد خلافا في الأكل من هدي الفساد ، وروي عن مالك : إن أكل من الجزاء والفدية فلا شيء عليه ، وكل هدي جاز أكل بعضه جاز أكل كله ولا حد فيما يستحب إطعامه على ظاهر المذهب ، وحدده ( ش ) بالنصف لقوله تعالى : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) [ الحج 28 ] ومرة بالثلث ؛ لقوله تعالى : ( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) [ الحج 36 ] فجعل له شريكين .

                                                                                                                والنذر قسمان : نذر للمساكين يأكلونه فلا يأكل منه على المشهور ، وفيه خلاف ، ومنذور النحر فقط ، قال مالك : يأكل منها ، وإذا عين أفضل مما وجب [ ص: 368 ] عليه وقلنا : يبدله فهل مثل ما كان في الذمة أو مثل ما عين ؟ لأن من نذر المشي إلى مكة معتمرا فمشى في حج فركب وأراد أن يقضي سنة أخرى ما ركب فإنه يمشي إن شاء في حج أو عمرة كما كان أولا ، ولو عطب بتفريطه لزمه مثل ما عين ، ولو كان بدلا عن هدي واجب ضل فعطب فأكل منه ، ثم وجد الأول نحره وبدل الثاني ; لأنه صار تطوعا أكل منه قبل محله ، وفي ( الجلاب ) : إذا أكل من هدي لا يجوز له الأكل منه روايتان : إحداهما يبدل الهدي كله ، والأخرى مكان ما أكل ، وروي عن مالك : لا شيء عليه ; لأنه عين للمساكين فأكله وأكل غيره سواء ، والسنة تضمين الجميع ؛ ولأنه كما ضمن إراقة دمه فقد ضمن أبعاضه . فإذا أكل بعضها سقطت الزكاة فيه ، والزكاة لا تتبعض فيبطل الجميع .

                                                                                                                والهدي في الأكل منه على أربعة أضرب : ما يؤكل قبل بلوغه وبعده وهو الواجب ماعدا الفدية والجزاء والنذور ، وما لا يؤكل منه قبل ولا بعد وهو نذر المساكين المعين ، وما لا يؤكل منه قبل بلوغه يؤكل بعد وهو التطوع والنذر المطلق ; لأنهما غير مضمونين قبل محلهما إذا لم يتعرض ، فإن تعرض ضمن ، وما يؤكل قبل لا بعد وهو الجزاء والفدية والنذر المضمون ; لأنها مضمونة قبل وبعد مستحقة للغير ، وإن أكل السائق للهدي ، وإذا وقف قبل محله فإن كان واجبا لم يجزئ ربه وضمن السائق للتهمة كالراعي يذبح الشاة يقول : خفت عليها الموت فإن شهد له أحد من رفقته ممن أكل من الهدي لم يقبل قوله ; لأن الشاهد يثبت لنفسه أنه أكل مباحا وضمن السيد ولا يرجع السائق على أحد ممن أطعمه ; لأنه يقول : إنهم أكلوا مباحا ويضمن القيمة وقت النحر ، لا هديا مكانه كمن تعدى على هدي ، وإنما يضمن الهدي بالهدي ، وبه لأنه التزم بلوغ الهدي إلى محله [ ص: 369 ] من ماله فإن كان الهدي تطوعا فليس على ربه إلا هدي بقيمة ما يرجع به ، وإن كان الهدي واجبا فعليه مثل ما وجب عليه ، وإن طعم السائق من الواجب فلا شيء عليه ولا على ربه إن أمره ; لأنه مضمون على ربه ، وإن أطعم من التطوع غير مستحق فلا شيء على ربه ، وإن لم يأمره وإلا فعليه البدل ، وإن أطعم مستحقا فلا شيء عليه وضمن ربه إن أمره أن يطعم معينا ، وفي ( الكتاب ) : : من أطعم غنيا من جزاء الفدية فعليه البدل جهل أو علم كالزكاة ولا يطعم منه ، ولا من جميع الهدي غير مسلم فإن فعل ضمن الجزاء والفدية دون غيرهما وهو خفيف ، وقد أساء ولا يطعم من جزاء الصيد أبويه ولا زوجته ولا ولده ولا مدبره ولا مكاتبه ; لأنها وجبت عليه ، فلا يصرفها لمن يتعلق به كالزكاة ، قال سند : وإذا أطعم غنيا عالما فيختلف هل يغرم جميع الهدي أو قدر ما أعطى لحما أو طعاما ، وإن كان غير عالم اختلف قول ابن القاسم ، كما اختلف في الزكاة ، وكذلك اختلف في غير المسلم كالزكاة ، وإطعام الذمي مكروه عند ابن القاسم ، وخفف ابن وهب في إطعام الذمي من الأضحية ، وقال : إنما النهي في المجوس ، وخفف مالك في إطعام جيرانه الكتابيين من الأضحية ، وكره ابن القاسم إلا لمن في عياله منهم فإن أطعم أبويه أو من ذكر معهم فعلى أصل ابن القاسم عليه البدل ، ويجري فيه الخلاف في قدر ما أطعم لحما أو طعاما فإن كان الأكل بغير إذنه فإنما عليه قدر ذلك ; لأنه لم يتعد حتى يقدر سقوط إراقة الدم في ذلك البعض ، إنما وصلت إليه منفعة ذلك البعض ، ولو لم يكن الأكل في عياله لم يلزمه شيء ، وفي ( الجواهر ) : قيل : لا يؤكل من هدي الفساد ، ومن أكل من نذر المساكين ففي إبدال بعضه أو كله روايتان ، وقيل : إن كان معينا أطعم قدر ما أكل ، وإن كان مضمونا وجب البدل عن الكل ، وإذا أوجبنا بدل المأكول فقيل : بدل اللحم ; لأنه من ذوات الأمثال ، وقال عبد الملك : قيمته طعاما ; لأن مثل لحم الهدي لا يوجد ، وقيل : يغرم القيمة ثمنا .

                                                                                                                [ ص: 370 ] ويختص بأكل الهدي من جوز له أخذ الزكاة إن كان مما لا يأكل صاحبه منه ، وإلا فلا يختص بل يأكل الفقير والغني . الفصل الثالث : في بقاعها ، وفي ( الكتاب ) : كل هدي فاته الوقوف بعرفة فمحله بمكة ، وكل ما وقف بعرفة فنحره بمنى فإن نحر بمكة جهلا أو عمدا أجزأ ; لقوله تعالى : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) [ الحج 33 ] ، ومن ضل هديه الواجب بعد الوقوف بعرفة فوجده بعد أيام منى فلينحره بمكة ، قال ابن القاسم : قال مالك : مرة لا يجزئه ، وقال مرة يجزئه وبه أقول ، ومن ضل هديه بعد الوقوف بعرفة فوجده غيره فنحره بمنى ; لأنه رآه هديا أجزأ ربه ، قال ابن يونس : قال مالك : كل ما محله مكة فعجز عن الدخول به إلى بيوت مكة ، ونحر بالحرم لم يجزئ ، وإنما محله مكة أو ما يلي بيوتها من منازل الناس ، ولا يجزئ نحره عند ثنية المدنيين ; لأنه عليه السلام نحر هديه عام الحديبية بالحرم وأخبر الله تعالى أنه لم يبلغ محله بقوله : ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) [ الفتح 25 ] ، قال مالك : و منى كلها منحر إلا ما خلف العقبة وأفضلها عند الجمرة الأولى ، ولا ينحر هدي بمكة إلا بعد أيام منى ، قال سند : يختلف في وجوب النحر بمكة إذا فات الوقوف بعرفة .

                                                                                                                وينحر بمنى ما اجتمعت فيه ثلاثة شروط : الوقوف بعرفة ، وأن ينحر في أيام النحر على سنة الضحايا ، وأن يكون نحره في حج ، وإذا ضل هديه فنحر غيره ثم وجده في أيام منى فنحره ، قال بعض الشافعية : الضال الواجب يتقدم تعينه على الواجب ، والمذهب وجوب الاثنين : الأول عما في الذمة ، والثاني لتعينه هديا ، كمن أحرم بحجة الإسلام ثم تبين له أنه حج قبل ذلك ، فإن الثاني يتعين ، وروى ابن القاسم : إذا ساق الهدي الواجب فضل قبل الوقوف بعرفة ثم وجده يوم النحر [ ص: 371 ] بمنى لا يجزئه ، وينحره بمكة ويهدي غيره ، وروى أشهب : يجزئه فنزل مرة نية الإيقاف منزلته ومرة لم ينزلها ، وفي ( الجلاب ) : إن أضل الهدي الواجب قبل الوقوف ثم وجد بمنى فروايتان : ينحره بمنى ثم يبدله بهدي آخر بمكة بعد أيام منى ، ويؤخره حتى ينحره بمكة ويجزئه ، فصار في الفرع أربعة أقوال : ينحره بمنى ويجزئه ، ينحره بمنى ويبدله بها ، ينحره بمكة ويبدله بها ، ينحره بمكة ويجزئه ، وفي ( الكتاب ) : لا يجزئ ذبح جزاء الصيد ولا هدي إلا بمكة أو بمنى ، وما كان من هدي في عمرة لنقص فيها أو نذر أو تطوع أو جزاء صيد نحره إذا دخل مكة أو ينحره بمنى ، كما يفعل بعد التحلل إلا هدي الجماع في العمرة ويؤخره إلى قضائها أو بعد قضائها بمكة على ما تقدم في فساد الإحرام .

                                                                                                                وفي ( الجواهر ) : قال عبد الملك يجوز النحر بمنى ، وإن لم يقف بعرفة ، وإذا نحر بمكة ما وقف بعرفة ففي الإجزاء أقوال ثالثها : يختص الإجزاء بما نحر بعد خروج أيام منى . الفصل الرابع : في أزمانها ، وفي ( الكتاب ) : لا يجزئ ذبح الهدايا قبل الفجر ، وكذلك نسك الأذى ، وإن قلد لقوله تعالى : ( في أيام معلومات ) [ الحج 28 ] واليوم النهار لقوله تعالى : ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) [ الحاقة 7 ] ، ولأنه السنة ، وفي ( الجواهر ) : يراق دم الفساد والفوات في الحجة المقضية ، وقيل في الفائتة والمفسدة ; لأنه جبران لها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية