الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4372 (30) باب

                                                                                              في ذكر موسى عليه السلام [ 2283 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى عليه السلام أن يغتسل معنا إلا أنه آدر". قال: "فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه". قال: "فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي حجر. ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس. فقام الحجر بعد حتى نظر إليه. قال: فأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا".

                                                                                              قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة، ضرب موسى عليه السلام بالحجر.


                                                                                              وفي رواية: قال أبو هريرة: كان موسى عليه السلام رجلا حييا.

                                                                                              قال: فكان لا يرى متجردا وذكر نحوه. قال: ونزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها [الأحزاب: 69].

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 315 )، والبخاري (278)، ومسلم (339) في الفضائل (155)، والترمذي (3219). [ ص: 189 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 189 ] (30) ومن باب ذكر موسى عليه السلام

                                                                                              .. قوله: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض " إنما كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك معاندة للشرع، ومخالفة لموسى عليه السلام، وهو من جملة عتوهم، وقلة مبالاتهم باتباع شرع موسى ، ألا ترى أن موسى عليه السلام كان يستتر عند الغسل، فلو كانوا أهل توفيق وعقل اتبعوه، ثم لم يكفهم مخالفتهم له حتى آذوه بما نسبوا إليه من آفة الأدرة، فأظهر الله تعالى براءته مما قالوا بطريق خارق للعادة، زيادة في أدلة صدق موسى عليه السلام ومبالغة في قيام الحجة عليهم.

                                                                                              وفي هذا الحديث ما يدل على أن الله تعالى كمل أنبياءه خلقا وخلقا ، ونزههم في أول خلقهم من المعايب، والنقائص المنفرة عن الاقتداء بهم المبعدة عنهم، ولذلك لم يسمع أنه كان في الأنبياء والرسل من خلقه الله تعالى أعمى، ولا أعور، ولا أقطع، ولا أبرص، ولا أجذم، ولا غير ذلك من العيوب والآفات التي تكون نقصا، ووصما يوجب لمن اتصف بها شينا وذما، ومن تصفح أخبارهم، وعلم أحوالهم علم ذلك على القطع. وقد ذكر القاضي رحمه الله في الشفاء من هذا جملة وافرة، ولا يعترض عليها بعمى يعقوب ، وبابتلاء أيوب ، فإن ذلك كان طارئا عليهم محبة لهم، وليقتدي بهم من ابتلي ببلاء في حالهم [ ص: 190 ] وصبرهم، وفي أن ذلك لم يقطعهم عن عبادة ربهم. ثم إن الله تعالى أظهر كرامتهم، ومعجزاتهم بأن أعاد يعقوب بصيرا عند وصول قميص يوسف له، وأزال عن أيوب جذامه وبلاءه عند اغتساله من العين التي أنبع الله تعالى له عند ركضه الأرض برجله، فكان ذلك زيادة في معجزاتهم، وتمكينا في كمالهم، ومنزلتهم. والآدر - بمد الهمزة -: هو ذو الأدرة، بضم الهمزة، وسكون الدال، وهي عظم الخصيتين، وانتفاخهما.

                                                                                              و (قوله: " فجمح موسى بأثره ") أي: أسرع في مشيه خلف الحجر ليأخذ ثوبه. والجموح من الخيل: هو الذي يركب رأسه في إسراعه، ولا يثنيه شيء، وهو عيب فيها، وإنما أطلق على إسراع موسى خلف الحجر جماحا؛ لأنه اشتد خلفه اشتدادا لا يثنيه شيء عن أخذ ثوبه، وهو مع ذلك ينادي: " ثوبي حجر ! ثوبي حجر ! " كل ذلك استعظام لكشف عورته، فسبقه الحجر إلى أن وصل إلى جمع بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى ، وكذبهم الله في قولهم، وقامت حجته عليهم.

                                                                                              وقول موسى عليه السلام: " ثوبي حجر ! ثوبي حجر ! " منصوب بفعل مضمر، وحجر منادى مفرد محذوف حرف النداء، وتقدير الكلام: أعطني ثوبي يا حجر ! أو: اترك ثوبي يا حجر ! فحذف الفعل لدلالة الحال عليه. وحذف حرف النداء هنا استعجالا للمنادى، وقد جاء في كلام العرب حذف حرف النداء مع النكرة، كما قالوا: أطرق كرا، وافتد مخنوق، وهو قليل. وإنما نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؛ لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل.

                                                                                              وفي وضع موسى ثوبه على الحجر، ودخوله في الماء عريانا: دليل على جواز ذلك، [ ص: 191 ] وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى ، واحتج بحديث لم يصح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا الماء إلا بمئزر، فإن للماء عامرا ".

                                                                                              قال القاضي : وهو ضعيف عند أهل العلم. وجاء في " الأم " قال: " فاغتسل عند مويه " وهو تصغير ماء، هكذا في رواية العذري ، ورواها أكثر الرواة: المشربة - بفتح الميم والراء - وأصله: موضع الشرب، وأراد به الماء. والمشربة - بفتحها أيضا -: الأرض اللينة، فأما المشربة التي هي الغرفة فتقال: بفتح الراء وضمها، كما تقدم. وطفق من أفعال المقاربة، كجعل وأخذ، ويقال: بفتح الفاء وكسرها، والندب: الأثر وهو بفتح الدال.




                                                                                              الخدمات العلمية