الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار أي أولئك هم الذين قالوا في الاعتذار عن عدم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - : إن الله عهد إلينا في كتابه التوراة ألا نؤمن لرسول يدعي أنه مرسل من الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار .

                          قال المفسرون : إنهم أرادوا شيئا كان شائعا عندهم ، وهم أن يذبح القربان من النعم ، أو غيرها ، فيوضع في مكان معين فتأتي نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه ، أو تحرقه [ ص: 219 ] وروى ابن جرير ، عن ابن عباس : أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة ، فإذا تقبل منه نزلت عليه نار من السماء ، فأكلته ; أي أكلت ما تصدق به . هذا ما أورده ، وردوه بأن هذا القربان إنما كان يوجب الإيمان لأنه معجزة لا لذاته إذ هو كغيره من المعجزات .

                          أقول : إن القربان في عبادة بني إسرائيل كان على قسمين : دموي ، وغير دموي . فالقرابين الدموية كانت تكون من الحيوانات الطاهرة كالبقر ، والغنم ، والحمام ، وغير الدموية هي باكورات المواسم ، والخمر ، والزيت ، والدقيق . والقرابين عندهم أنواع منها : المحرقات ، والتقدمات ، وذبائح السلامة ، وذبائح الخطيئة ، وذبائح الإثم . وكانوا يحرقون المحرقات بأيديهم .

                          وقد جاء في الفصل الأول من سفر اللاويين في ذلك ما نصه :

                          " [ 1 ] ودعا الرب موسى . وكلمه من خيمة الاجتماع قائلا [ 2 ] كلم بني إسرائيل وقل لهم . إذا قرب إنسان منكم قربانا للرب من البهائم فمن البقر ، والغنم تقربون قرابينكم [ 3 ] إن كان قربانه محرقة من البقر فذكرا صحيحا يقربه إلى باب خيمة الاجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب [ 4 ] ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عليه للتكفير عنه [ 5 ] ويذبح العجل أمام الرب ، ويقرب بنو هارون الكهنة الدم ، ويرشون الدم مستديرا على المذبح الذي لدى باب خيمة الاجتماع [ 6 ] ويسلخ المحرقة ، ويقطعها إلى قطعها [ 7 ] ويجعل بنو هارون الكاهن نارا على المذبح ، ويرتبون حطبا على النار [ 8 ] ويرتب بنو هارون الكهنة القطع مع الرأس ، والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح [ 9 ] وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقة وقود رائحة سرور للرب "

                          ثم ذكر تفصيل قربان الغنم بصنفيه الضأن والمعز ، والطير وهو صنفان أيضا الحمام واليمام بنحو ما تقدم كما بين بقية أنواع القرابين . فمن هنا تعلم أنهم كانوا يوقدون النار بأيديهم ويحرقون بها القرابين المحرقات ، ولكن اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين أخبارا من خرافاتهم ، أو مخترعاتهم ليودعوها كتبهم ، ويمزجوها بدينهم ، ولذلك نجد في كتب قومنا من الإسرائيليات الخرافية ما لا أصل له في العهد القديم ، ولا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن أوائلنا في التفسير ، وغيره ، ويرفعه عن النقد والتمحيص ، ولا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب بني إسرائيل .

                          أما الأستاذ الإمام فقد ذكر ما قاله المفسرون في القربان ، ثم قال : ويجوز وهو الأظهر [ ص: 220 ] أن يكون معنى حتى يأتينا بقربان تأكله النار أن يفرض علينا تقريب قربان يحرق بالنار ، فقد كان من أحكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان وقد أمر الله - تعالى - نبيه أن يرد عليهم فقال : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين في زعمكم لا تؤمنون بي لأني لم آمر بإحراق القرابين ، أي إنكم لم ترضوا بعصيان أولئك الرسل فقط بل قسوتم عليهم ، وقتلتموهم .

                          قال الأستاذ الإمام : لا ريب أن هذا لم يقع منكم إلا لأنكم شعب غليظ الرقبة ( بذا وصفوا في التوراة التي في أيديهم ) وأنكم قساة غلف القلوب لا تفقهون الحق ، ولا تذعنون له . وهذا مبني على ما قلناه من اعتبار الأمة باتفاق أخلاقها ، وصفاتها ، وعاداتها العامة كالشخص الواحد ، وكان هذا المعنى معروفا عند العرب ، فإنهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ويؤاخذونها به ولو بعد موته ، ويدلنا هذا على أن الجنايات ، والجرائم مرتبطة في حكم الله - تعالى - بمناشئها ، ومنابعها فمن لم يرتكب الجريمة ؛ لأن آلاتها ، وأسبابها غير حاضرة لديه لا يكون بريئا من الجريمة إذا كان منشؤها والباعث عليها مستقرا في نفسه ، وهذا المنشأ هو التهاون بأمر الشريعة ، وعدم المبالاة بأمر الحق ، والتحري فيه .

                          فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الناصعة ، والزبر الصادعة ، والكتاب الذي ينير السبيل ، ويقيم الدليل . فلا تأس عليهم ، ولا تحزن لكفرهم ، ولا تعجب من فساد أمرهم ، فإن هذه سنة الله في العباد ، وشنشنة من سبق من هؤلاء من آباء وأجداد فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأقاموا على أقوامهم الحجة ببيناتهم ، وهزموا قلوبهم بزبر عظاتهم ، وأناروا بالكتاب سبيل نجاتهم فما أغنى ذلك عنهم من شيء لما انصرفت قلوبهم عن طلب الحق ، وتحري سبيل الخير . فالآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان لطباع الناس ، واستعدادهم .

                          والزبر : جمع زبور بمعنى مزبور ، من زبرت الكتاب إذا كتبته مطلقا ، أو كتابة عظيمة غليظة . قاله الراغب ، أو متقنة كما في لسان العرب ، فهو بمعنى الكتب والصحف ، يقال : زبرت الكتاب بمعنى كتبته . وبمعنى قرأته ، أو بمعنى الزاجرة ، قال في اللسان : وزبره يزبره بالضم نهاه ونهره ، وفي الحديث : " إذا رددت على السائل ثلاثا فلا عليك أن تزبره " أي تنهره ، وتغلظ له في القول ، والرد . والزبر بالفتح : الزجر ، والمنع اهـ . وأصل معنى الزبر القطع ، ومنه زبر الحديد قطعه ، ويوشك أن تكون الزبر هنا المواعظ ، والكتاب المنير جنسه أي الكتب الأربعة ، أو الزبر صحف الأنبياء والكتاب المنير الإنجيل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية