الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : قوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) قرئ : " يقتروا " بكسر التاء وضمها ، ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء ، وأيضا بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها ، وكلها لغات . والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة . وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : وهو الأقوى ، أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29] وعن وهيب بن الورد قال لعالم : ما البناء الذي لا سرف فيه ؟ قال : ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر . فقال له : فما الطعام الذي لا سرف فيه ؟ قال : ما سد الجوعة . فقال له في اللباس ، قال : ما ستر عورتك ووقاك من البرد . وروي أن رجلا صنع طعاما في إملاك ، فأرسل إلى الرسول عليه السلام ، فقال : حق فأجيبوا ، ثم صنع الثانية فأرسل إليه ، فقال : حق فمن شاء فليجب ، وإلا فليقعد ، ثم صنع الثالثة فأرسل إليه ، فقال : رياء ولا خير فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى ، والإقتار منع حق الله تعالى . قال مجاهد : لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفا ، ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا . وقال الحسن : لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي ، وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله ، وهو أقبح التقتير ، وقد يكون عما لا يجب ، ولكن يكون مندوبا ، مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا ، وإن كان من حلال ؛ فإن ذلك مكروه ؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء ، والإقتار هو التضييق ، فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف ، وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار ، وهذه الصفة صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة ، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد . وههنا مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : " القوام " قال ثعلب : القوام بالفتح العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر ، قال صاحب "الكشاف" : القوام : العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء . وقرئ : " قواما " بالكسر ، وهو ما يقام به الشيء ، يقال : أنت قوامنا ، يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المنصوبان أعني " بين ذلك قواما " جائز أن يكونا خبرين معا ، وأن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا ، وأن يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة ، قال الفراء : وإن شئت جعلت "بين ذلك " اسم [ ص: 96 ] كان ، كما تقول : كان دون هذا كافيا ، تريد أقل من ذلك ، فيكون معنى " بين ذلك " ، أي : كان الوسط من ذلك قواما ، أي : عدلا ، وهذا التأويل ضعيف ؛ لأن القوام هو الوسط ، فيصير التأويل : وكان الوسط وسطا ، وهذا لغو .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية