الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن باع صبرة طعام بصبرة طعام - وهما لا يعلمان كيلهما - لم يصح البيع لما روى جابر رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام } " ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث جابر المذكور بهذا اللفظ الذي في الكتاب رواه النسائي وزاد " ولا الصبرة من الطعام بالكيل المسمى من الطعام " وسنده على شرط مسلم ورواه مسلم بلفظ آخر فقال فيه جابر { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر ، لا يعلم مكيلها ، بالكيل المسمى من التمر } " ورواه الشافعي رضي الله عنه في الأم بهذا اللفظ الذي [ ص: 200 ] عند مسلم سواء ، ومن العجب أن الحاكم ذكره في مستدركه وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه وكأنه سقط من نسخته من مسلم أو غفل عنه والله أعلم ، وإنما ذكرت ذلك لئلا يقف أحد على كتاب المستدرك فيظن الوهم في نسبته إلى مسلم والله أعلم

                                      وفي رواية عند مسلم لم يذكر من التمر في آخر الحديث فالاختلاف بين روايتي مسلم والرواية الأولى في تقييده الصبرة المعينة بالتمر ، رواية مسلم من الطريقين مقيدة لها والرواية الأولى مطلقة ، والنسائي روى الوجهين جميعا ، وترجم على كل منهما بما يناسبه والسند واحد فيهما وليس هذا باختلاف ضار ، ولعلهما جميعا ثابتان فلا تنافي بينهما لا سيما والإطلاق من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم والتقييد في الرواية الأخرى من قول جابر ، فلعل جابرا حضر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع صبرة من التمر غير معلومة المكيال ، فنهى عنها وذكر صلى الله عليه وسلم إما في ذلك الوقت وإما في غيره لفظا شاملا تندرج فيه تلك الصبرة وغيرها وروي الأمران عنه ، فلا يكون ذلك من الباب الذي نحن فيه - حمل المطلق على المقيد ، وإنما يصح ذلك لو كان الكلامان من قول النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ يبقى النظر في أن حمل المطلق على المقيد يختص بالإثبات كما نبه عليه بعض الأصوليين ولا مجال له في النفي ، وهذان اللفظان مثال لذلك ، أو يقال : إن المطلق يحمل على المقيد مطلقا ولو فرضنا أنه لم يمكن الجمع المذكور وأن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما فقط وأن ذلك اختلاف في الرواية ، فالأخذ باللفظ المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ باللفظ الذي عبر به الراوي عنه ، ولو لم يحصل الترجيح المذكور ، ولم يثبت إلا الرواية المقيدة لكان القياس الجلي ، ويدل على أنه لا فرق بين التمر وغيره ، والله أعلم .

                                      ولفظ الحديث عام والمراد به خاص ، وهو ما إذا كانتا غير معلومتين بدليل الرواية الأخرى والله أعلم . إذا عرف ذلك ، فإذا باع صبرة من طعام بصبرة من طعام وهما لا يعلمان كيلهما فإما أن تكون الصبرتان من جنس واحد أو لا ، فإن كانتا من جنس [ ص: 201 ] واحد لم يجز ، نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك ، والحديث المذكور حجة له ، ولهذا نقول : إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ولا يجوز ذلك جزافا ولا بالتحري والحزر والتخمين ، ونقل القاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهما عن مالك أنه أجاز ذلك في البادية والسفر في المكيل دون الموزون لأن البادية يتعذر فيها وجود المكيال ، وأجاب القاضي بمنع ذلك ، لأن الكيل يمكن بالإناء والقصعة والدلو وحفر حفيرة يكيل فيها وغير ذلك ، واتفق أكثر العلماء على خلاف هذا ، وأنه لا يجوز البيع في ذلك جزافا ولا بالحزر والتخمين والتحري ، بل لا بد من العلم سواء خرجتا متماثلتين أم لا . نص عليه الشافعي - رحمه الله - في الأم والأصحاب . أما إذا ظهر التفاضل فظاهر ، وأما إذا خرجتا متماثلتين فاحتجوا له بأن التساوي شرط ، وشرط العقد يعتبر العلم به عند العقد ، ألا ترى أنه لو نكح امرأة لا يدري أهي معتدة أم لا ؟ أو هي أخته من الرضاع أم لا ؟ لا يصح النكاح ، وقد يعترض على هذا بأن بقية شروط المبيع كالملك وشبهه لا يشترط العلم بها ، ألا ترى أنه لو باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت صح على الأصح ، فالأولى التمسك بالحديث ، فالمماثلة شرط والعلم بها شرط آخر وإنما كان كذلك دون بقية الشروط في المبيع ، كالملك وما أشبهه حيث يشترط وجوده فقط لا العلم به على الصحيح من المذهب للاحتياط فيما أصله التحريم ، فلما كان الأصل في الربويات وفي الأبضاع التحريم اشترط فيها العلم بالشروط والأصل في البيع الحل فلذلك صح في بيع المال الذي يظنه لأبيه إذا تبين خلافه .

                                      ونقل عن زفر - رحمه الله - أنه إذا خرجتا متماثلتين صح وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يصح إن علما التساوي قبل التفرق ، وزفر لم يشترط ذلك بل حكم بالصحة سواء حصل العلم قبل التفرق أو بعده ، والحديث حجة عليهما ، وكل ما قلناه في الصبرة بالصبرة جار بعينه في الدراهم بالدراهم وفي الدنانير بالدنانير وفي كل ربوي بجنسه ، صرح الأصحاب بذلك ولأجل جزم الأصحاب بالمنع في ذلك رد القاضي حسين على من يقول من الأصحاب : إن العلة الطعم . والشرط عدم التساوي في المعيار وقال ابن الرفعة رحمه الله : [ ص: 202 ] إن هذا القائل قد يقول بالجواز نظيره بيع مال ظنه لأبيه ، وكان لنفسه لموت أبيه قبل بيعه ( قلت ) وهذا التخريج مردود فإن الأصحاب متفقون على المنع والحديث حجة فيه وما نقله ابن المنذر من الإجماع إن ثبت ولم يصح قول زفر فالوجه الجواب عن بيع ما ظنه لأبيه والفرق بين المسألتين لا أن يطلب تخريج على خلاف قول الأصحاب والله أعلم .

                                      وإن كانتا من جنسين كتمر بزبيب أو حنطة وشعير وتبايعاهما جزافا جاز استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم " { فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم } " ولمفهوم الرواية الأولى من روايتي مسلم المتقدمة التي فيها الكيل المسمى من التمر ، فتقييده بذلك يدل على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز وهذا التقييد هنا زيادة من الراوي يجب قبولها وليس فيها من البحث ما تقدم كما لا يخفى على متأمل . هذا مذهبنا ومذهب أكثر العلماء قال الشافعي رضي الله عنه : لأن أصل البيع إذا كان حلالا بجزاف وكانت الزيادة إذا اختلف الصنفان حلا فليس في الجزاف معنى أكثر من أن يكون أحدهما أكثر من الآخر . ونقل عن أحمد كراهة ذلك ومنعه جماعة من أصحابه قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم " { نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة } " . وذكر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا من أصحابنا هذه المسألة في كتابه الذي صنفه في بعض مفردات أحمد قال : فإذا اختلف الجنس جاز بيع أحدهما بالآخر مجازفة كالدراهم بالدنانير جزافا . والحنطة والشعير صبرة بصبرة . وجوز أحمد رضي الله عنه بيع المكيل بالموزون جزافا كبيع صبرة من حنطة بصبرة من الدراهم وإنما خالف في بيع ما يكال بما يكال أو ما يوزن بما يوزن جزافا روي عن جابر قال " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع الصبرة بالصبرة من الطعام ولا يدري ما كيل هذا } " وهذا نص في الصبرة وعام في الجنس والجنسين قال : وتعلقهم بهذا باطل فإنه إذا جعل الجهل مانعا فالنهي بالتساوي لا يزيد على العلم بالتفاضل [ ص: 203 ] فحيث جوز الشرع التفاضل وقال : إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم فلا وجه لمنع المجازفة فدل على أن المراد به إذا اتحد الجنس والذي ذكرناه من التأويل هو مأخذنا وهو المقطوع به ، انتهى .

                                      على أن ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني بعد أن ذكر ما روي عن أحمد وقول المانعين من أصحابهم رد القول بالمنع ورجح الجواز وقال : إذا كانت حقيقة الفضل لا تمنع فاحتماله أولى ألا يكون مانعا قال : وحديثهم أراد به الجنس الواحد ، فلهذا جاء في بعض ألفاظه " { نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر } " وكما يجوز أن يتبايعا ذلك مجازفة يجوز أن يتبايعا المكيل موزونا والموزون مكيلا عند اختلاف الجنس ، نص عليه الشافعي ، وذلك مما لا يخفى ولنرجع إلى ألفاظ الكتاب : ( قوله ) صبرة طعام بصبرة طعام ، أي من جنسه ، وحذف ذلك لأن كلامه السابق في بيع الجنس الواحد بعضه ببعض ، فأغنى عن تقييده . وأيضا فإن الطعام في عرف أهل بغداد والعراق يختص بالقمح ، فلذلك كثيرا ما يذكره الفقهاء العراقيون ويريدون ذلك ، وكذلك الحكم لو باع صبرة دراهم بصبرة دراهم ، وهما لا يعلمان وزنهما ، أو ذهبا بذهب كذلك ، فلو حذف لفظة الطعام كان أشمل ، لكنه قيد بذلك ليكون الحديث الذي استدل به منطبقا على دعواه وافيا بمقصوده .

                                      ( وقوله ) وهما لا يعلمان ، ظاهره أن كلا منهما لا يعلمه ، لأن دلالة الضمائر كلية كالعام ، ولأن النفي إذا تأخر عن صيغة العموم أفاد الاستغراق ولا فرق في الحكم بين ألا يعلما وأن يعلم أحدهما دون الآخر ، وقد نقل ابن المنذر في الصبرة إذا علم البائع كيلها دون المبتاع أن عطاء وابن سيرين وعكرمة ومجاهدا ومالكا وأحمد وإسحاق كرهوا ذلك ، وأن الشافعي أجازه جزافا ، وإذا عرف كيله أحب إليه ، ومراده إذا باعها بالدراهم أو بغير جنسها ، وإلا بيع الصبرة بجنسها لا يجيز الشافعي رضي الله عنه فيه الجزاف ( نعم ) إذا علم البائع كيلها وأخبر به المشتري فاعتمد عليه ، فمقتضى كلام الشافعي الجواز . [ ص: 204 ] وقوله ) لا يعلمان كيلها ، أفرد الضمير ، وهو صالح لأن يعود على الصبرة المعينة ، وعلى الصبرة التي هي ثمن ، والحكم شامل لهما ، لا فرق بين أن يجهل كلتا الصبرتين أو أحداهما . نص عليه الشافعي - رحمه الله - والأصحاب . ودليله الرواية المتقدمة عن مسلم : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر ، لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر } " .



                                      ( فرع ) لو باع دينارا بدينارين ممن كاتبه كتابة فاسدة ، ولم يعلم فسادها ، لا يجوز - كما لو تزوج بمن لا تحل له ظاهرا ثم انكشف أنها تحل له لا يصح النكاح ، قاله الروياني في البحر ، والحكم صحيح لكن قول الروياني : أنه لا يجوز إما أن يريد به لا يصح أو لا يحل ، فإن أراد نفي الصحة فعدم الصحة حاصل ، سواء كانت الكتابة فاسدة أم صحيحة ، وسواء علم السيد بها أم جهل فلا وجه لتشبيهها بمسألة النكاح وإن أراد بعدم الجواز عدم الحل ، فهذه المعاملة إذا صدرت من السيد مع عبده القن حكمها حكم العقود الفاسدة ، فإن حكمنا بأن تعاطي العقود الفاسدة حرام وهو الحق إذا أريد بها تحقيق معناها المنهي عنه شرعا ، فحينئذ هذه المعاملة بين السيد ومكاتبه لا تحل ، سواء علم بفساد الكتابة أم لم يعلم ، لا يصح تشبيها بمسألة النكاح المذكورة . وإن قيل بأن تعاطي العقود الفاسدة ليس بحرام ، وأنه يجوز للسيد أن يبيع من عبده القن دينارا بدينارين فالوجه القطع هنا بالتحريم ، ثم أيكفي حصول الإثم لأن ذلك دائر مع الظن وجودا وعدما ؟ وقد أقدم على العقد هاهنا مع ظنه تحريمه فيأثم ؟ وليس ذلك أيضا ، كما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي ، فإذا هو ميت ، لأن الكلام في تلك المسألة في الصحة لا في الحل ، فقد تبين أن الفساد كما قال الروياني إنه لا يجوز ، وإن التشبيه فيه نظر ، والله أعلم




                                      الخدمات العلمية