الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشرعية ، وفروع طالت أفنانها ، لكنها تنتظمها تلك الأصول ، وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر ، فمالت إلى بثها النفس ، ورأت أنه من الأكيد الطلب ، لما فيه من رفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع ، لأنه لما كثرت البدع ، وعم ضررها ، واستطار شررها ، ودام الإكباب على العمل بها ، والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها ، وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ، صارت كأنها سنن مقررات ، وشرائع من صاحب الشرع محررات ، فاختلط المشروع بغيره ، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم ، فالتبس بعضها ببعض ، فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم ، وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف ، وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف .

                        [ ص: 42 ] مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين : فالموالي لم يخلد به إلى الأرض ، ويلقي له باليد إلى العجز عن بث الحق ، بعد رسوخ العوائد في القلوب ، والمعادي يرميه بالأردبيس ، ويروم أخذه بالعذاب البئيس ، لأنه يرد عوائده الراسخة في القلوب ، المتداولة في الأعمال ، دينا يتعبد به ، وشريعة يسلك عليها ، لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد ، مع بعض الأشياخ العالمين ، كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا . ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح .

                        فالمعترض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل ، حيث قال : " ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله ، قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي ، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره .

                        وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه ، غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ، ولا يسع أحدا ممن له منة إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه ، بعد تحصيله على كماله ، وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق إلا يرفع مناره ، ولا تكشف وتجلى أنواره .

                        فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه ، فإنك إن مت وأنت كذلك; [ ص: 43 ] زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق ، وعلم الناس سنتي ، وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة; فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك .

                        [ ص: 44 ] قال أبو عبد الله بن القطان : " وقد جمع الله له ذلك كله ، من إقراء كتاب الله ، والتحديث بالسنة ، أحب الناس أم كرهوا ، وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى ، تتميما للسلامة من الخطأ .

                        على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ : " أنه كتب إلى مالك بن أنس إن بلدنا كثير البدع ، وإنه ألف كلاما في الرد عليهم .

                        فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك ، خفت أن تزل فتهلك ، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم ، لا يقدرون أن يعرجوا عليه ، فهذا لا بأس به ، وأما غير ذلك ، فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه ، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك ، انتهى .

                        وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام . وشياع هذا النكر ، وفشو العمل به ، وتظاهر أصحابه; يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام ، لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها .

                        [ ص: 45 ] وحكى ابن وضاح عن غير واحد : أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات :

                        " اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله ، من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع ، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم ، فقمعهم الله بك ، وشد بك ظهر أهل السنة ، وقواك عليهم بإظهار عيبهم ، والطعن عليهم ، وأذلهم الله بذلك ، وصاروا ببدعتهم مستترين .

                        فأبشر يا أخي بثواب الله ، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد . وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه ، وقال : أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه ، كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة ؟ ! فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟ ! وذكر أيضا : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها ، وينطق بعلامتها .

                        فاغتنم يا أخي هذا الفضل ، وكن من أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ [ ص: 46 ] حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال : " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا ، وأعظم القول فيه .

                        فاغتنم ذلك ، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ، فيكونون أئمة بعدك ، فيكون لك ثواب إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر .

                        فاعمل على بصيرة ونية حسنة ، فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر ، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم .

                        فأحي كتاب الله وسنة نبيه ، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه .

                        انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله . وهو مما يقوي جانب الإقدام ، مع ما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أنه خطب الناس ، فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال :

                        " والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت ، أو أن أميت بدعة قد أحييت ، لكرهت أن أعيش فيكم فواقا " .

                        وخرج ابن وضاح في كتاب " القطعان " وحديث الأوزاعي : أنه بلغه عن الحسن أنه قال : " لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده ، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله ، فإذا وافقوه ، حمدوا الله ، وإذا خالفوه ، عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل ، وهدى من اهتدى ، فأولئك خلفاء الله .

                        وفيه عن سفيان ; قال : اسلكوا سبيل الحق ، ولا تستوحشوا من قلة [ ص: 47 ] أهله . فوقع الترديد بين النظرين .

                        ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الإخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء ، وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء ، فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ، ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات .

                        فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته بـ الاعتصام .

                        والله أسأل أن يجعله عملا خالصا ، ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا ، والأجر على العناء فيه كاملا لا ناقصا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                        وينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب ، وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه ، وما انجر معها من الفروع المتعلقة به .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية