الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض ، فخير الأيام عند الله يوم النحر ، وهو يوم الحج الأكبر ، كما في " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل [ ص: 55 ] الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر ) . وقيل : يوم عرفة أفضل منه ، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي ، قالوا : لأنه يوم الحج الأكبر ، وصيامه يكفر سنتين ، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة ؛ ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده ، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف . والصواب القول الأول ؛ لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء يقاومه ، والصواب أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ؛ لقوله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) [ التوبة : 3 ] ، وثبت في " الصحيحين " أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة . وفي " سنن أبي داود " بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يوم [ ص: 56 ] الحج الأكبر يوم النحر ) ، وكذلك قال أبو هريرة ، وجماعة من الصحابة ، ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ؛ لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرءوس ، ورمي الجمار ، ومعظم أفعال الحج ، وعمل يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم . وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام ، فإن أيامه أفضل الأيام عند الله ، وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ) ، وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله : ( والفجر وليال عشر ) [ الفجر : 1 - 2 ] ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأكثروا فيهن من [ ص: 57 ] التكبير والتهليل والتحميد ) ، ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع .

ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور ، وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي ، وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر .

فإن قلت : أي العشرين أفضل ؟ عشر ذي الحجة ، أو العشر الأخير من رمضان ؟ وأي الليلتين أفضل ؟ ليلة القدر ، أو ليلة الإسراء ؟ .

قلت : أما السؤال الأول فالصواب فيه أن يقال : ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة ، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان ، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر ، وهي من الليالي ، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه ، إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية .

وأما السؤال الثاني ، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب ؟ .

فأجاب : الحمد لله ، أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل [ ص: 58 ] منه في ليلة القدر ، فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها ، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها ، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره ، بخلاف ليلة القدر ، فإنه قد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر ، وأنه أنزل فيها القرآن .

وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح ، وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها .

والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور ، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي ، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ، ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها ، لا سيما [ ص: 59 ] على ليلة القدر ، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت ، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية ، بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ، ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ، ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء ، ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات ، كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد ( رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه ، فقال : ما هذا ؟ ، قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض ) .

وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر ، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء ، فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم ، وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له .

فإن قيل : فأيهما أفضل : يوم الجمعة ، أو يوم عرفة ؟ فقد روى ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة ) وفيه أيضا حديث أوس بن أوس ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية