الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء وكان خارجا عن الدين بالكلية .

قال بعض العارفين : إنما انقطع الأبدال في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت لأنهم عندهم جهال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء .

قال سهل التستري رضي الله عنه إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة .

وكل عالم خاض في الدنيا فلا ينبغي أن يصغى إلى قوله بل ينبغي أن يتهم في كل ما يقول لأن كل إنسان يخوض فيما أحب ويدفع ما لا يوافق محبوبه ولذلك قال الله عز وجل : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا والعوام العصاة أسعد حالا من الجهال بطريق الدين المعتقدين أنهم من العلماء ; لأن العامي العاصي معترف بتقصيره فيستغفر ويتوب وهذا الجاهل الظان أنه عالم ، وأن ما هو مشتغل به من العلوم التي هي وسائله إلى الدنيا عن سلوك طريق الدين فلا يتوب ولا يستغفر بل لا يزال مستمرا عليه إلى الموت .

وإذ غلب هذا على أكثر الناس إلا من عصمه الله تعالى وانقطع الطمع من إصلاحهم فالأسلم لذي الدين المحتاط العزلة والانفراد عنهم كما سيأتي في كتاب العزلة بيانه إن شاء الله تعالى ولذلك كتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي ما ظنك بمن بقي لا يجد أحدا يذكر الله تعالى معه إلا كان آثما أو كانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله ولقد صدق فإن مخالطة الناس لا تنفك عن غيبة أو سماع غيبة أو سكوت على منكر وأن أحسن أحواله أن يفيد علما أو يستفيده ولو تأمل هذا المسكين وعلم أن إفادته لا تخلو عن شوائب الرياء وطلب الجمع والرياسة علم أن المستفيد إنما يريد أن يجعل ذلك آلة إلى طلب الدنيا ، ووسيلة إلى الشر فيكون هو معينا له على ذلك وردءا وظهيرا ومهيئا لأسبابه كالذي يبيع السيف من قطاع الطريق .

فالعلم كالسيف وصلاحه للخير كصلاح السيف للغزو ولذلك لا يرخص له في البيع ممن يعلم بقرائن أحواله أنه يريد به الاستعانة على قطع الطريق .

فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة تجمع كل واحدة منها جملة من أخلاق علماء السلف فكن أحد رجلين إما متصفا بهذه الصفات أو معترفا بالتقصير مع الإقرار به وإياك أن تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تبدل آلة الدنيا بالدين وتشبه سيرة البطالين بسيرة العلماء الراسخين وتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة الهالكين الآيسين .

نعوذ بالله من خدع الشيطان فبها هلك الجمهور .

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا تغره الحياة الدنيا ولا يغره بالله الغرور .

التالي السابق


(وإياك) أيها السامع لما أوردناه (أن يكون حظك) ونصيبك (من العلم) الذي حملته في باطنك (إنكار كل ما جاوز حد قصورك) وتعدى عن طور فهمك (ففيه هلك المتخذ لقول من العلماء) أمن التكيسون والحذلقة والتحذلق: التصرف بالظرف، وقيل: المتحذلق: هو الذي يريد أن يزداد على قدره، وأنه ليتحذلق في كلامه ويتبلتع أي يتظرف ويتكيس (الزاعمون أنهم أحاطوا) على المعلومات بأسرها، (بعلم المعقول) ولو وكل ما لا يحيط به إدراكه إلى علم الله تعالى لكان أحسن الحالين له، (والجهل خبر من عقل يدعو) ويتسبب (إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى) ; لأن أشرف أقوال الجاهلين التسليم والتفويض لما لا يعلمون، وهو أقل أحوال العالمين، فبالنظر إلى ذلك كان بعض الجهل خيرا من العلم، (ومن أنكر ذلك لأولياء الله تعالى) ولم يثبت لهم ذلك (لزمه إنكار الأنبياء) ; لأن طريق الفيض واحد، وإنما يختلف تلقيه بحسب الاستعدادات فما كان للأنبياء فهو للأولياء، مع مباينة الاستعداد، ما عدا مرتبة النبوة، التي لا يلحقها لاحق ولا يشق غبارها سابق، فإنكار ما للأولياء يورثه الإنكار لما للأنبياء (و) متى ارتسم ذلك في صورته الطبيعية رد إلى أرذل الأحوال و (كان خارجا عن) ربقة (الدين بالكلية) وهذا يسقط معه الكلام، (قال بعض العارفين: إنما [ ص: 447 ] انقطع الأبدال في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم) ولفظ القوت، ويقال: إن الأبدال إنما انقطعوا لأطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور، (لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت) ولا يصبرون على استماع كلامهم; (لأنهم عندهم جهال بالله تعالى) أي العلماء عند الأبدال (وهم) أي العلماء (عند أنفسهم وعند الجاهلين) والعامة (علماء) وقد ذكر السادة الصوفية أن الأبدال في كل زمن سبعة لا يزيدون كل واحد في إقليم والأوتاد أربعة لا يزيدون والنجباء ثمانية لا يزيدون والنقباء اثنا عشر لا يزيدون ولكل هؤلاء أحوال ليس هذه محل ذكرها .

قال صاحب القوت: وقد صاروا من أهل الجهل بالجهل على الوصف الذي (قال) أبو محمد: (سهل التستري رحمه الله تعالى) إن (من أعظم المعاصي الجهل بالجهل) أي أن يجهل أن يجهل فجهله بسبط، وقد تم كلام سهل ثم ابتدأ صاحب القوت، فقال: (والنظر إلى) أحوال (العامة واستماع كلام أهل الغفلة) أيسر عندهم أي عند الأبدال; لأنهم لا يعدمون ذلك حيث كانوا من أطراف الأرض، وقد ظهر لك مما تقدم أن كلام سهل التستري من أعظم المعاصي الجهل بالجهل، وهو هذا القدر، وأما ما بعده فإنه من إيراد صاحب القوت، وظن المصنف كله من كلام سهل، فأورده الجمل الثلاثة معا، وحذف الخبر الذي هو قوله، أيسر عندهم فليتفطن لذلك، وهذا لا يعرفه إلا من أطلعه الله تعالى، على مآخذ عبارات المصنف، (وكل عالم) ناطق بظواهر العلوم، (خائض في) أمور (الدنيا) محب لها فإنه آكل للمال بالباطل، وكل من أكل أموال الناس بالباطل فإنه يصد عن سبيل الله لا محالة، وإن لم يظهر ذلك في مقالته، ولكنا نعرفه في لحن معناه بدقائق الصد عن مجالسة غيره وبلطائف المنع من طرقات الآخرة، (فلا ينبغي أن يصغى) أي بمال الأذن (إلى) استماع (قوله بل ينبغي أن يتهم في كل ما يقول لأنه كل إنسان) إنما (يخوض فيما أحب) ومالت إليه نفسه، (ويدفع ما لا يوافق محبوبه) فحب الدنيا وغلبة الهوى يحكمان عليه بالصد عن سبيل الحق شاء أم أبى; (ولذلك قال تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) أي مضيعا متهاونا به، وقال أبو عبيدة: أي ندما، وقيل: سرفا، (والعوام) من الناس (العصاة أسعد حالا) وأقرب إلى الرحمة (من) خواص العلماء (الجهال بطريق الدين) والصراط المستقيم (المعتقدين) في أنفسهم وعند العامة، (أنهم من العلماء; لأن العامي العاصي) لا يموه في الدين ولا يغر المؤمنين، لا يدعي أنه عالم; لأنه يتعلم و (معترف) بالجهالة و (بتقصيره) مقر (فيستغفر ويتوب) فهو من الرحمة أقرب ومن المقت أبعد (وهذا الجاهل الظان) في نفسه (أنه عالم، وأن ما هو مشتغل به من العلوم التي هي وسائل إلى الدنيا) ووسائط وأسباب لتحصيلها (عن سلوك طريق الدين فلا يتوب) إلى الله تعالى، (ولا يستغفر) فهو (لا يزال مستمرا) على حاله (إلى الموت) وكان سهل التستري يقول: قسوة القلب بالجهل أشد من القسوة بالمعاصي; لأن الجاهل بالعلم تارك ومدع، والعاصي بالفعل معترف بالعلم، وكان يقول أيضا: العلم دواء يصلح الأدواء، فهو يزيل فساد الأعمال بالتدارك. والجهل داء يفسد الأعمال بعد صلاحها فهو يزيل الحسنات ويجعلها سيئات، فكم بين ما يصلح الفساد وبين ما يفسد الصالحات، وقد قال الله تعالى: إن الله لا يصلح عمل المفسدين ، وقال تعالى: إنا لا نضيع أجر المصلحين ، (وإذا غلب هذا) الوصف (على أكثر الناس) من المتسمين بسمة العلم، (إلا من عصمه الله تعالى) وهم أقل من القليل (انقطع) الرجاء من إرشادهم وخاب (الطمع من إصلاحهم) ; لأنه داء نحيس لا يرجى برؤه، (فالأسلم) الأحوط (لدين المحتاط) الوجل المشفق على حاله (العزلة والانفراد عنهم) كيلا يراهم ولا يروه (كما سيأتي في كتاب العزلة) من هذا الكتاب (بيانه إن شاء الله تعالى ولذلك كتب) أبو محمد (يوسف بن أسباط) المتوفى سنة نيف وتسعين ومائة، (إلى حذيفة المرعشي) المتوفى سنة سبع ومائتين وكلاهما من أكابر العارفين (ما ظنك بمن بقي لا يجد أحدا يذكر الله تعالى معه إلا كان آثما وكانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله) هكذا أورده صاحب [ ص: 448 ] القوت، وزاد: قلت ليوسف: يا أبا محمد وتعرفهم؟ قال: يخفون علينا، وقوله: قلت إلخ، إنما هو حكاية صاحب القوت عمن روى ذلك عن يوسف بن أسباط لا أنه أدركه، وسأله، وذلك لأنه صاحب القوت، وفاته سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ويوسف بن أسباط متقدم عنه بكثير، وقال في موضع آخر، وقال حذيفة المرعشي: كتب إلي يوسف بن أسباط: ذهبت الطاعة، ومن يعرفها، وكان أيضا يقول: ما بقي من يؤنس به، وقال: ما ظنك بزمان مذاكرة العلم فيه معصية، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنه لا يجد أهله .

(ولقد صدق) يوسف بن أسباط في قوله: (فإن مخالطة الناس) ومجالستهم (لا تنفك عن) كثير من الغوائل من نحو (غيبة أو سماع غيبة أو سكوت على منكر) وكل من الثلاثة مهلكات، (وأحسن أحواله أن يفيد علما) للغير (ولو تأمل) حق التأمل (علم أن المستفيد) من ذلك العلم (إنما يريد أن يجعل ذلك آلة إلى طلب الدنيا، ووسيلة إلى الشر فيكون هو معينا له) في سائر أحواله، (ورد أو ظهيرا) وناصرا، (ومهيئا) حاضرا (لأسبابه) المنوطة به، وهذا في الحقيقة (كالذي يبيع السيف) وما في معناه من آلات الحرب (من قطاع الطريق) على المسلمين واللصوص (فالعلم كالسيف) بجامع كل منهما في كونه آلة للحرب، فالعلم آلة لحرب أعداء الباطن والسيف آلة لحرب أعداء الظاهر (وصلاحه للخير) يبذله لأهله (كصلاح السيف للغزو) والجهاد (وذلك لا يرخص) أي لا يجوز (في البيع من يعلم بقرائن الأحوال) القائمة الدالة على (أنه يريد) به (الاستعانة على قطع الطريق) والضرر بالمسلمين (فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة تجمع كل واحدة) منها (جملا من أخلاق علماء السلف) وأحوالهم وسيرهم (فكن) أيها السامع لذلك (أحد رجلين إما متصفا بهذه الصفات) بعد التخلية عن الأوصاف المذمومة بالمجاهدات الشرعية، وهو أعلى المقام (أو متعرفا بالتقصير) عن لحوق ذلك لموانع وقواطع (مع الإقرار به) والتسليم لما فيه وهو المقام الثاني، (وإياك أن تكون الثالث) أي لا متصفا ولا معترفا بل منكرا، (فتلبس على نفسك) أي تشبه عليها (بأن بدلت آلة الدنيا بالدين وسيرة البطالين) عن الأعمال الصالحة (بسيرة العلماء الراسخين) الثابتين القدم في علومهم ومعارفهم وأذواقهم (وتلحق بجهلك) في نفسك (وإنكارك) بمقاماتهم (بجملة الهالكين) في عذاب الله (الآيسين) من رحمة الله .

قال القطب سيدي علي وفا قدس سره: سبقت كلمة الله التي لا تتبدل وجرت سنة الله التي لا تتحول أن لا ينفخ روح علمه في مخصوص إلا انقسم الخلق له بين ملكي ساجد وشيطاني حاسد، فاحرص على أن تكون لأهل النعم العلمية محبا خاضعا لتسلم أو تنعم أو ترحم، وإياك أن تكون لهم مبغضا أو حاسدا فتسلب أو ترجم أو تحرم، (نعوذ بالله من خدع الشيطان فيما هو هلك الجمهور) معظم الناس، (ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا تضره الحياة الدنيا) بزينتها وزهرتها (ولا يغره بالله الغرور) ، وهو كما قال ابن عرفة: ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن تكرهه، أو تجهله وبه ختم المصنف الباب السادس من كتاب العلم .




الخدمات العلمية