الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب تفسير العرايا وقال مالك العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر وقال ابن إدريس العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد لا يكون بالجزاف ومما يقويه قول سهل بن أبي حثمة بالأوسق الموسقة وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما كانت العرايا أن يعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين وقال يزيد عن سفيان بن حسين العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر

                                                                                                                                                                                                        2081 حدثنا محمد هو ابن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا قال موسى بن عقبة والعرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب تفسير العرايا ) هي جمع عرية وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة ، كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة ، قاله حسان بن ثابت فيما ذكر ابن التين ، وقال غيره : هي لسويد بن الصلت :


                                                                                                                                                                                                        ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح



                                                                                                                                                                                                        ومعنى " سنهاء " أن تحمل سنة دون سنة و " الرجبية " التي تدعم حين تميل من الضعف ، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة أو فاعلة ، يقال : عرى النخل بفتح العين والراء بالتعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها ، بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها وتبقى رقبتها لمعطيها ، ويقال : عريت النخل بفتح العين وكسر [ ص: 457 ] الراء تعرى على أنه قاصر فكأنها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطية ، واختلف في المراد بها شرعا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مالك : العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ) أي : يهبها له أو يهب له ثمرها ( ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له ) أي : للواهب ( أن يشتريها ) أي : يشتري رطبها ( منه ) أي : من الموهوبة له ( بتمر أي : يابس ، وهذا التعليق وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب عن مالك ، وروى الطحاوي من طريق ابن نافع عن مالك أن العرية النخلة للرجل في حائط غيره ، وكانت العادة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول له : أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا فرخص له في ذلك ، ومن شرط العرية عند مالك أنها لا تكون بهذه المعاملة إلا مع المعري خاصة لما يدخل على المالك من الضرر بدخول حائطه ، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي والكلف . ومن شرطها أن يكون البيع بعد بدو الصلاح . وأن يكون بتمر مؤجل . وخالفه الشافعي في الشرط الأخير فقال يشترط التقابض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن إدريس : العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد ، ولا تكون بالجزاف ) ابن إدريس هذا رجح ابن التين أنه عبد الله الأودي الكوفي ، وتردد ابن بطال ثم السبكي في " شرح المهذب " وجزم المزي في " التهذيب " بأنه الشافعي ، والذي في " الأم للشافعي " وذكره عنه البيهقي في " المعرفة " من طريق الربيع عنه قال : العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة فأكثر بخرصه من التمر ، بأن يخرص الرطب ثم يقدر كم ينقص إذا يبس ثم يشتري بخرصه تمرا ، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع . انتهى . وهذا وإن غاير ما علقه البخاري لفظا فهو يوافقه في المعنى لأن محصلهما أن لا يكون جزافا ولا نسيئة ، وقد جاء عن الشافعي بلفظ آخر قرأته بخط أبي على الصدفي بهامش نسخته قال : لفظ الشافعي ولا تبتاع العرية بالتمر إلا أن تخرص العرية كما يخرص المعشر فيقال : فيها الآن كذا وكذا من الرطب ، فإذا يبس كان كذا وكذا ، فيدفع من التمر بكيله خرصا ويقبض النخلة بثمرها قبل أن يتفرقا ، فإن تفرقا قبل قبضها فسد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومما يقويه ) أي : قول الشافعي بأن لا يكون جزافا قول سهل بن أبي حثمة " بالأوسق الموسقة " وقول سهل هذا أخرجه الطبري من طريق الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن سهل موقوفا ولفظه : " لا يباع الثمر في رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسقا ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلها الناس " وما ذكره المصنف عن الشافعي هو شرط العرية عند أصحابه ، وضابط العرية عندهم أنها بيع رطب في نخل يكون خرصه إذا صار تمرا أقل من خمسة أوسق بنظيره في الكيل من التمر مع التقابض في المجلس . وقال ابن التين : احتجاج البخاري لابن إدريس بقول سهل بالأوسق الموسقة لا دليل فيه ، لأنها لا تكون مؤجلة ، وإنما يشهد له قول سفيان بن حسين يعني : الآتي .

                                                                                                                                                                                                        قلت : لعله أراد أن مجموع ما أورده بعد قول ابن إدريس يقوي قول ابن إدريس ، ثم إن صور العرية كثيرة : منها أن يقول الرجل لصاحب حائط : بعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر . فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم إليه النخلات بالتخلية فينتفع برطبها . ومنها أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه ، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري منه رطبها بقدر خرصه بتمر يعجله له . ومنها أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا ولا يحب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر [ ص: 458 ] يأخذه معجلا . ومنها أن يبيع الرجل تمر حائطه بعد بدو صلاحه ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عف له عن خرصها في الصدقة ، وسميت عرايا لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها . ومما يطلق عليه اسم عرية أن يعري رجلا تمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها ، وهذه هبة مخصوصة . ومنها أن يعري عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة . وهاتان الصورتان من العرايا لا يبيع فيها . وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور ، وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية ، وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار .

                                                                                                                                                                                                        ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة ، وهو أن يعري الرجل تمر نخلة من نخله ولا يسلم ذلك له ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا ، وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر ، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر كما تقدم ، وفي حديث غيره . وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان من أصحابهم أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض ، فلما جاز له أن يعطي بدلها تمرا وهو لم يملك المبدل منه حتى يستحق البدل كان ذلك مستثنى وكان رخصة . وقال الطحاوي : بل معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به ويعطي بدله ولو لم يكن واجبا عليه ، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ولا يكون في حكم من أخلف وعده ظهر بذلك معنى الرخصة واحتج لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية العطية . ولا حجة في شيء منها ؛ لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق العرية شرعا على صور أخرى ، قال ابن المنذر : الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة ، قال : ونظير ذلك الإذن في السلم مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تبع ما ليس عندك قال : فمن أجاز المسلم مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك ومنع العرية مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر فقد تناقض .

                                                                                                                                                                                                        وأما حملهم الرخصة على الهبة فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه ، فلو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع ، ولأنه عبر بالرخصة ، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع والمنع إنما كان في البيع لا الهبة ، وبأن الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو ما دونها والهبة لا تتقيد لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة بين ذي رحم وغيره ، وبأنه لو كان الرجوع جائزا فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب بل هو تجديد هبة أخرى فإن الرجوع لا يجوز فلا يصح تأويلهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع عن ابن عمر : " كانت العرايا أن يعري الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين " ) أما حديث ابن إسحاق عن نافع فوصله الترمذي دون تفسير ابن إسحاق ، وأما تفسيره فوصله أبو داود عنه بلفظ " النخلات " وزاد فيه : " فيشق عليه فيبيعها بمثل خرصها " وهذا قريب من الصورة التي قصر مالك العرية عليها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال يزيد ) يعني : ابن هارون ( عن سفيان بن حسين : العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر ) وهذا وصله الإمام أحمد في حديث [ ص: 459 ] سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا في العرايا قال سفيان بن حسين فذكره ، وهذه إحدى الصور المتقدمة ، واحتج لمالك في قصر العرية على ما ذكره بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب الذي قبله بلفظ : " يأكلها أهلها رطبا " فتمسك بقوله : " أهلها " والظاهر أنه الذي أعراها ويحتمل أن يراد بالأهل من تصير إليه بالشراء ، والأحسن في الجواب أن حديث سهل دل على صورة من صور العرية وليس فيه التعرض لكون غيرها ليس عرية وحكي عن الشافعي تقييدها بالمساكين على ما في حديث سفيان بن حسين وهو اختيار المزني ، وأنكر الشيخ أبو حامد نقله عن الشافعي ، ولعل مستند من أثبته ما ذكره الشافعي في " اختلاف الحديث " عن محمود بن لبيد قال : " قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه؟ قال : فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم ، فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا " قال الشافعي : وحديث سفيان يدل لهذا ، فإن قوله : " يأكله أهلها رطبا " يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها وأنه ليس له رطب يأكله غيرها ، ولو كان المرخص له في ذلك صاحب الحائط يعني : كما قال مالك لكان لصاحب الحائط في حائطه من الرطب ما يأكله غيرها ولم يفتقر إلى بيع العرية .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن المنذر : هذا الكلام لا أعرف أحدا ذكره غير الشافعي ، وقال السبكي : هذا الحديث لم يذكر الشافعي إسناده ، وكل من ذكره إنما حكاه عن الشافعي ، ولم يجد البيهقي في " المعرفة " له إسنادا ، قال : ولعل الشافعي أخذه من السير ، يعني : سير الواقدي ، قال : وعلى تقدير صحته فليس فيه حجة للتقييد بالفقير ؛ لأنه لم يقع في كلام الشارع وإنما ذكره في القصة فيحتمل أن تكون الرخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة ، ويحتمل أن يكون للسؤال فلا يتم الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشارع . وقد اعتبر هذا القيد الحنابلة مضموما إلى ما اعتبره مالك ، فعندهم لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا محمد ) كذا للأكثر غير منسوب ، ووقع في رواية أبي ذر هو ابن مقاتل ، وعبد الله هو ابن المبارك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال موسى بن عقبة ) أي : بالإسناد المذكور إليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والعرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها ) أي : تشتري ثمرتها بتمر معلوم ، وكأنه اختصره للعلم به ولم أجده في شيء من الطرق عنه إلا هكذا ، ولعله أراد أن يبين أنها مشتقة من عروت إذا أتيت وترددت إليه لا من العري بمعنى التجرد ، قاله الكرماني ، وقد تقدم قول يحيى بن سعيد : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا ، وفي لفظ عنه : أن العرية النخلة تجعل للقوم فيبيعونها بخرصها تمرا . وقال القرطبي : كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى بن سعيد ، وليس يحيى صحابيا حتى يعتمد عليه مع معارضة رأي غيره له . ثم قال : وتفسير يحيى مرجوح بأنه عين المزابنة المنهي عنها في قصة لا ترهق إليها حاجة أكيدة ولا تندفع بها مفسدة ، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع ثمره بعين وشرائه بالعين ما يريد من الرطب ، فإن قال : يتعذر هذا ، قيل له : فأجز بيع الرطب بالتمر ولو لم يكن الرطب على النخل ، وهو لا يقول بذلك . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره ، فإنها [ ص: 460 ] ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة ، وأما إلزامه الأخير فليس بلازم ؛ لأنها رخصة وقعت مقيدة بقيد فيتبع القيد وهو كون الرطب على رءوس النخل ، مع أن كثيرا من الشافعية ذهبوا إلى إلحاق الرطب بعد القطع بالرطب على رءوس النخل بالمعنى كما تقدم ، والله أعلم . وكل ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعي ، فقد روى أبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد وهو أخو يحيى بن سعيد قال : العرية الرجل يعري الرجل النخلة ، أو الرجل يستثني من ماله النخلة يأكلها رطبا فيبيعها تمرا . وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه : " حدثنا وكيع قال : سمعنا في تفسير العرية أنها النخلة يرثها الرجل أو يشتريها في بستان الرجل " وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية ومنع غيرها ، وأما من عمل بها كلها ونظمها في ضابط يجمعها فلا اعتراض عليه ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية