الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال الغزالي رحمه الله : التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة ، علم وحال وعمل ، فالعلم أول ، والحال ثان والعمل ثالث ، والأول موجب للثاني ، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضته سنة الله [ ص: 20 ] في الملك والملكوت ، أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وكونه حجابا بين العبد ورحمة الرب ، فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب ، فإن القلب مهما شعر بفوات المحبوب تألم ، فإذا كان فواته يفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سببا لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندما ، ثم إن ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي ، أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابسا له ، وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر . وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر ، فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة ، فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم ، فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس ، وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب ، فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك ، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول ( على التوبة ) . ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك كالثمرة والتابع المتأخر ، وبهذا الاعتبار قال عليه السلام : " الندم توبة " ، إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفا بطرفيه ، أعني مثمره وثمرته ، فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال القفال : لا بد في التوبة من ترك ذلك الذنب ، ومن الندم على ما سبق ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله ، ومن الإشفاق فيما بين ذلك كله ، أما أنه لا بد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلا له فلا يكون تائبا ، وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضيا بكونه فاعلا له ، والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائبا عنه ، وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية ، والعزم على المعصية معصية ، وأما الإشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفا ، ولهذا قال تعالى : ( يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] وقال عليه السلام : " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " ، واعلم أن كلام الغزالي رحمه الله أبين وأدخل في التحقيق ، إلا أنه يتوجه عليه إشكال وهو أن العلم بكون الفعل الفلاني ضررا مع العلم بأن ذلك الفعل صدر منه يوجب تألم القلب ، وذلك التألم يوجب إرادة الترك في الحال والاستقبال وإرادة تلافي ما حصل منه في الماضي ، وإذا كان بعض هذه الأشياء مرتبا على البعض ترتبا ضروريا لم يكن ذلك داخلا تحت قدرته فاستحال أن يكون مأمورا به .

                                                                                                                                                                                                                                            والحاصل أن الداخل في الوسع ليس إلا تحصيل العلم ، فأما ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل ، لكن لقائل أن يقول : تحصيل العلم ليس أيضا في الوسع ؛ لأن تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلا بواسطة معلومات متقدمة على ذلك المجهول ؛ فتلك العلوم الحاضرة المتوسل بها إلى اكتساب ذلك المجهول إما أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول أو لم تكن مستلزمة . فإن كان الأول كان ترتب المتوسل إليه على المتوسل به ضروريا ، فلا يكون ذلك داخلا في القدرة والاختيار ، وإن كان الثاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة ؛ لأن المقدمات القريبة لا بد وأن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذهن تسليم المطلوب ، فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدمات منتجة لتلك النتيجة . فإن [ ص: 21 ] قيل : لم لا يجوز أن يقال : تلك المقدمات وإن كانت حاضرة في الذهن إلا أن كيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة غير حاضرة في الذهن ، فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدمات العلم بتلك النتيجة لا محالة ؟ قلنا : العلم بكيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة إما أن يكون من البديهيات أو من الكسبيات ، فإن كان من البديهيات لم يكن في وسعه ؛ وإن كان من الكسبيات كان القول في كيفية اكتسابه كما في الأول ، فإما أن يفضي إلى التسلسل وهو محال ، أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية