الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4417 [ 2313 ] وعن أبي موسى الأشعري أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقال: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج وجه هاهنا، قال: فخرجت على إثره أسأل عنه، حتى دخل بئر أريس، قال: فجلست عند الباب - وبابها من جريد - حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس، وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر. قال: فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت من هذا؟ فقال أبو بكر، فقلت: على رسلك، قال: ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة". قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيرا يأت به فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة". فجئت عمر، فقلت: أذن ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. قال: فدخل، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا - يعني: أخاه - يأت به، فجاء إنسان، فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه". قال: فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك - وفي رواية: فقال: اللهم صبرا والله المستعان - قال: فدخل فوجد القف قد ملئ،، فجلس وجاههم من الشق الآخر.

                                                                                              قال شريك: فقال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم.

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 393 و 406-407)، والبخاري (3693 و 3695 و 6216)، ومسلم (2403) (28 و 29)، والترمذي (3710).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: " خرج وجه هاهنا ") الرواية المشهورة: وجه بفتح الجيم مشددة على أنه فعل ماض، وضبطه أبو بحر : وجه - بسكون الجيم - على أن يكون ظرفا، والعامل فيه خرج، أي: خرج في هذه الجهة.

                                                                                              و (قوله: " فإذا هو قد جلس على بئر أريس ، وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر ") والقف - بضم القاف -: أصله: الغليظ من الأرض، قاله ابن دريد وغيره، وعلى هذا: القف: الذي يتمكن الجماعة أن يجلسوا عليه، ويدلوا أرجلهم في البئر، وهو جانبها المرتفع عن الأرض، وكل ما قيل فيه خلاف هذا فيه بعد، ولا يناسب مساق الحديث.

                                                                                              و (قوله: " على رسلك ") هو بكسر الراء، وهو المعروف، ويقال بفتحها، أي: اسكن وارفق، كما يقال: على هينتك.

                                                                                              [ ص: 265 ] و (قوله: " فجلس وجاهه ") هو بكسر الواو، ويقال بضمها، أي: مقابله وقبالته، وهذا الحديث نص في أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في الجنة، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة يفيد مجموعها القطع بأن الخلفاء الأربعة مقطوع لهم بأنهم من أهل الجنة.

                                                                                              و (قوله: " على بلوى تصيبه ") هذا من النبي صلى الله عليه وسلم إعلام لعثمان رضي الله عنه بما يصيبه من البلاء والمحنة في حال خلافته، وقد جاء من الأخبار ما يدل على تفصيل ما يجري عليه من القتل وغيره، فمن ذلك ما خرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا عثمان ! لعل الله يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم ". وقال: حديث حسن غريب. وفيه عن [ ص: 266 ] ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فقال: " يقتل فيها مظلوما " لعثمان رضي الله عنه ، وقال: حديث حسن غريب.

                                                                                              وروى أبو عمر بن عبد البر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا لي بعض أصحابي " فقلت: أبو بكر؟ فقال: " لا "، فقلت: فعمر ؟ فقال: " لا "، قالت: قلت: ابن عمك عليا ؟ فقال: " لا "، فقلت له: عثمان ؟ فقال: " نعم "، فلما جاءه، فقال لي بيده، فتنحيت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يساره، ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر قيل له: ألا نقاتل عنك؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وأنا صابر عليه. فهذه الأحاديث وغيرها مما يطول تتبعه: تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بتفصيل ما جرى عليه، وأنه سلم نفسه لما علم من أن ذلك قدر سبق وقضاء وجب، ولذلك منع كل من أراد القتال دونه، والدفع عنه - ممن كان معه في الدار، وفي المدينة - من نصرته. وتفصيل كيفية قتله، وما جرى لهم معه مذكور في التواريخ. وجملة الأمر أن قوما من أهل مصر وغيرهم غلب عليهم الجهل، والهوى، والتعصب، فنقموا عليه أمورا أكثرها كذب، وسائرها له فيها أوجه من المعاذير، وليس فيها شيء يوجب خلعه، ولا قتله، فتحزبوا، واجتمعوا بالمدينة ، وحاصروه في داره، فقيل: شهران، وقيل: تسعة وأربعون يوما، وهو في كل ذلك يعظهم، ويذكرهم بحقوقه، ويتنصل مما نسبوه إليه، ويعتذر منه، ويصرح بالتوبة، ويحتج عليهم بحجج صحيحة لا مخلص لهم عنها، ولا جواب عليها، لكن أعمتهم الأهواء ليغلب القضاء، فدخلوا عليه وقتلوه مظلوما كما شهد له النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة أهل السنة ، وألقي على مزبلة، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه حتى جاء جماعة بالليل خفية، وحملوه على لوح، وصلوا عليه، [ ص: 267 ] ودفن في موضع من البقيع يسمى: " حوش كوكب " وكان مما حبسه هو، وزاده في البقيع ، وكان إذا مر فيه يقول: يدفن فيك رجل صالح، فكان هو المدفون فيه، وعمي قبره لئلا يعرف، وقد نسب أهل الشام قتله إلى علي رضي الله عنهما، وهي نسبة كذب وباطل، فقد صح عنه: أنه كان في المسجد، وقت دخل عليه في الدار، ولما بلغه ذلك قال لقتلته: تبا لكم آخر الدهر، ثم إنه قد تبرأ من ذلك، وأقسم عليه، وقال: من تبرأ من دين عثمان ، فقد تبرأ من الإيمان، والله ما أعنت على قتله، ولا أمرت، ولا رضيت . لكنه لم يقدر على المدافعة بنفسه. وقد كان عثمان منعهم من ذلك. وكان مقتل عثمان في أوسط أيام التشريق على ما قاله أبو عثمان النهدي . قال ابن إسحاق : على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي : قتل يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذي الحجة، يوم التروية سنة خمس وثلاثين، وقيل: لليلتين بقيتا من ذي الحجة. قال ابن إسحاق : وبويع له بالخلافة يوم السبت غرة محرم سنة أربع وعشرين، بعد دفن عمر بثلاثة أيام، فكانت خلافته إحدى عشرة سنة إلا أياما اختلف فيها حسب ما بيناه. وقد كان انتهى من الفضل، والعلم، والعبادة إلى الغاية القصوى، كان يصوم الدهر، ويقوم الليل يقرأ القرآن كله في ركعة الوتر. وروى الترمذي ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر وعمر وعثمان ، وقال فيه: حديث صحيح حسن، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، ومن أهل الجنة، وقتلته مخطئون قطعا، وقد قدموا على ما قدموا عليه.

                                                                                              و (قول عثمان : " اللهم صبرا، والله المستعان ") أي: اللهم صبرني صبرا، وأعني [ ص: 268 ] على ما قدرت علي، فيه: استسلام لأمر الله تعالى، ورضا بما قدره الله تعالى.

                                                                                              و (قوله: " فجلس وجاههم من الشق الآخر ") الشق: الجانب، يعني: أنه جلس في مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.

                                                                                              و (قول سعيد : " فأولت ذلك قبورهم ") هذا من سعيد من باب الفراسة، ومن باب ما يقع في قلوب المحدثين الذين قدمنا ذكرهم لا من باب تأويل الرؤيا، إذ كان ذلك في اليقظة، وذلك أنه لما حدث بكيفية جلوس الثلاثة في جهة واحدة من القف، وعثمان في مقابلتهم وقع في قلبه: أن ذلك كان إشعارا بكيفية دفنهم، كما كان. والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية