الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 93 ] ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما ، أو أسلم جنسين ولم يبين مقدار أحدهما . ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد الموجب للتسليم ، ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر فصار كالقرض والغصب . [ ص: 94 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أن التسليم غير واجب في الحال فلا يتعين ، بخلاف القرض والغصب ، وإذا لم يتعين فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة ، لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان فلا بد من البيان ، وصار كجهالة الصفة ، [ ص: 95 ] وعن هذا قال من قال من المشايخ رحمهم الله إن الاختلاف فيه عنده يوجب التخالف كما في الصفة . وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية العقد عندهما ، وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة والقسمة ، وصورتها إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة .

وقيل لا يشترط ذلك في الثمن . والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا ، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله . وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء . قال ( وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع ) [ ص: 96 ] لأنه لا تختلف قيمته ( ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه ) قال رضي الله عنه : وهذه رواية الجامع الصغير والبيوع .

وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء ، وهو الأصح لأن الأماكن كلها سواء ، ولا وجوب في الحال . ولو عينا مكانا ، قيل لا يتعين لأنه لا يفيد ، وقيل يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق ، ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة يكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا .

التالي السابق


قال المصنف ( ومن فروعه ) أي من فروع الخلاف في معرفة قدر رأس المال ( إذا أسلم في جنسين ) ككر حنطة وكر شعير عشرة مثلا ( ولم يبين رأس مال كل منهما ) من العشرة ( أو أسلم جنسين ) كدنانير ودراهم في جنس واحد كبر أو أسلم تمرا وحنطة معينين في كذا منا من الزعفران ( ولم يبين مقدار أحدهما ) يعني عرف مقدار أحدهما دون الآخر لا يصح السلم لبطلان العقد في حصة ما لم يعلم قدره فيبطل في الآخر أيضا لاتحاد الصفة أو ( لجهالة حصة الآخر من المسلم فيه فيكون المسلم فيه مجهولا . ولهما في ) المسألة ( الثانية ) وهي اشتراط مكان التسليم فيما له مؤنة ( أن مكان العقد يتعين ) للإيفاء ( لوجود العقد ) فيه ( الموجب للتسليم ) ما لم يصرفاه باشتراط مكان غيره .

وحاصله أنه مقتضى عقد مطلق ، فلا يرد أنه لو كان مقتضى العقد لما صح اشتراط غيره ، فإن تغيير مقتضى العقد مردود أو هو مفسد على ما هو رواية عن أحمد رحمه الله ، وصار كانصرافه إلى غالب نقد البلد ما لم يسميا نقدا غيره فينصرف إليه ويلحق بالثمن فإن العقد يقتضيهما معا .

فلما اقتضى وجوب تسليم الثمن في مكان العقد وجب في الآخر كذلك وصار المكان كالزمان الذي هو أول أوقات الإمكان حيث يتعين للوجوب لعدم المزاحم أو للأداء على قول الكرخي في الأمر المطلق ، وتقريره أن التسليم يحتاج إلى مكان وهذا المكان لا يزاحم فيه غيره فيتعين كأول أوقات الإمكان ، وإلحاقا أيضا بالقرض والغصب والاستهلاك حيث يجب التسليم في مكان الغصب والقرض والاستهلاك . ويرد أن كون تعيين غير مكان العقد غير مفسد ينقض بما إذا اشترى كرا وشرط على البائع حمله إلى منزله فيفسد سواء اشتراه في المصر أو خارجه .

أجيب بالفرق بأن المشتري يملك العين بمجرد شرائها ، فإذا شرط حملا فقد شرط عملا في ملكه مع الشراء ثم سمي الثمن في مقابلة ذلك كله فصار بائعا آجرا ومشتريا مستأجرا معا فهو صفقة في صفقة فيفسد . أما عقد السلم فلا يملك المشتري به العين لأن المعقود عليه دين لا عين ، فإنما يملك العين بالقبض بالنقل من مكان إلى آخر عمل من البائع في ملكه نفسه فلا يكون بائعا وآجرا .

وأورد أيضا في الفوائد الظهيرية عن محمد رحمه الله ما يدل على عدم تعيينه ، فإنه قال في رجل باع طعاما والطعام في السواد إن كان المشتري يعلم مكانه فلا خيار له ، وإن لم يعلم [ ص: 94 ] فله الخيار . ولو تعين مكان البيع مكانا للتسليم لم يكن له الخيار ، ثم قيل : إنما يجوز البيع إذا كانت خوابي الحنطة في بيت واحد ، فإن كانت في مصر وسواد فالبيع فاسد لإفضائه إلى المنازعة لأن المشتري يطالبه بالتسليم في أقرب الأماكن والبائع يسلمه إليه في الأبعد ، وهذا كله دليل أن مكان البيع لا يتعين .

أجاب بأنه إنما يتعين إذا كان المبيع حاضرا والمبيع في السلم حاضر لأنه في ذمة البائع وهو حاضر في مكان العقد فالمبيع حاضر بحضوره وفي بيع العين إذا كان ( ولأبي حنيفة أن التسليم ) في السلم ( غير واجب في الحال فلا يتعين ) مكان العقد ( بخلاف القرض والغصب ) فإن التسليم فيهما واجب في الحال فيتعين مكان سبب الوجوب في الحال ، وكذا اندفع قياسه على رأس مال السلم فإنه يجب تسليمه في الحال وتضمن منع ما قالا من أن وجود العقد الموجب للتسليم يوجب تعيين مكانه ، بل العقد يوجب التسليم فقط إلا إن اقتضى أمرا آخر تعيين مكانه ( فإذا لم يتعين فالجهالة تفضي إلى المنازعة ، لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف الأماكن فلا بد من البيان ) دفعا للمنازعة لأن المسلم يطالبه بالتسليم في مكان يسقط عنه فيه مؤنة الحمل وترتفع قيمته والمسلم إليه على عكسه .

وبخلاف رأس المال لأن تسليمه واجب للحال فافترقا ، وإلحاقه بالأمر في تعين أول الأوقات بلا جامع ، لكن لا يخفى أن قوله التسليم غير واجب للحال فلا يتعين مكان العقد مما يرد عليه المنع إذ لا ملازمة تظهر ، وما المانع من تعينه مع تأخر التسليم حتى إذا حل الأجل وجب تسليمه في ذلك المكان ، فالأولى أن يقتصر على منع تعيين العقد المكان وإلحاقهما بالاستهلاك والقرض ظهر الفارق بينهما وبين السلم وبالثمن في العين محل النزاع ، لأن أبا حنيفة في الصحيح عنه يرى أنه لا يتعين أيضا إذا كان مؤجلا ، وأنه يجب تعيينه أيضا كما سيذكره المصنف وبرأس مال السلم يمنع فيه حكم الأصل ، فإنا لا نعين مكان [ ص: 95 ] العقد لتسليم رأس مال السلم بل أن يقبضه قبل الافتراق لنفي الكالئ بالكالئ ، فلو عقدا السلم ومشيا فرسخا ثم سلمه إليه قبل أن يفارقه جاز .

وقولهم الموجب للتسليم وجد فيه . قلنا : نعم ولا يستلزم الموجب في مكان أن يوجب مقتضاه في ذلك المكان فإنه لا ملازمة عقلية في ذلك لأنه يجوز أن يوجد في مكان وأثره الإيجاب مطلقا فلا تثبت هذه الملازمة إلا سمعا ( قوله وعن هذا ) أي وعن كون المكان يوجب اختلاف القيمة قال من قال من المشايخ : إن الاختلاف فيه يوجب التحالف عنده ، كما لو اختلفا في صفة الثمن أو المثمن فإن اختلاف الصفة يوجب اختلاف القيمة ، فهو كما إذا اختلفا في جودته ورداءته .

وقيل على عكسه : أي لا يوجب التحالف عنده بل القول قول المسلم إليه ، لأن تعيين المكان ليس قضية العقد عنده .

وعندهما يتحالفان لأن تعيين المكان لما ثبت بمجرد وجود العقد فيه كان من مقتضيات العقد والاختلاف فيها يوجب التحالف فالاختلاف فيه يوجب التحالف بالإجماع فكذا هنا قال ( وعلى هذا الاختلاف الثمن ) في البيع الناجز إذا كان له مؤنة حمل وهو مؤجل في بيع العين ( والأجرة ) بأن استأجر دارا مثلا بما له حمل ومؤنة وهو مؤجل عنده يشترط بيان مكان تسليمها وعندهما لا ( والقسمة ) فيما ( إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة . وقيل لا يشترط ذلك في الثمن )

بالإجماع ( والصحيح أنه يشترط ) عنده ( إذا كان موجلا وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي . وعندهما يتعين مكان الدار ) في القسمة ( ومكان تسليم الدابة ) في الإجارة ( للإيفاء ) ( قوله وما لم يكن له حمل ومؤنة ) [ ص: 96 ] كالمسك والكافور والزعفران وصغار اللؤلؤ : يعني القليل منه وإلا فقد يسلم في أمنان من الزعفران كثيرة تبلغ أحمالا ، وكذا المسك وصغار اللؤلؤ لا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء عندهم وهو الأصح من قول الشافعي ( ويوفيه في المكان الذي أسلمه فيه ) وكلما قلنا يتعين مكان العقد معناه إذا كان مما يتأتى التسليم فيه وما لا بأن أسلم إليه درهما في مركب في البحر أو جبل فإنه يجب في أقرب الأماكن التي يمكن فيها منه .

قال المصنف ( وهذا رواية الجامع الصغير والبيوع ) يعني من أصل المبسوط ، وذكر في الإجارات من أصل المبسوط ( يوفيه في أي مكان شاء ، وهو الأصح ) والأصح من قول الشافعي أيضا ( لأن الأماكن كلها سواء ) إذ المالية لا تختلف باختلاف الأماكن فيما لا حمل له ولا مؤنة ، بل بعزة الوجود وقلته وكثرة رغبات الناس وقلتها ، بخلاف ماله مؤنة فإن الحنطة والحطب يوجد في المصر والسواد ثم يشترى في المصر بأكثر مما يشترى في السواد ( ولو عينا مكانا ، قيل لا يتعين لأنه لا يفيد ) والشرط الذي لا يفيد لا يجوز .

( وقيل يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق ) وهو الأصح ، وبه قال الشافعي وأحمد ، ذكره في التحفة ( ثم لو عينا المصر فيما له حمل ومؤنة يكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا ) يعني أن القيمة لا تختلف باختلاف المصر الواحد عادة . قيل هذا إذا لم يكن المصر عظيما ، فلو كان بين جوانبه نحو فرسخ لا يجوز إلا أن يبين لأنه مفض إلى المنازعة ، ذكره في المحيط . ولو شرط أن يوفيه في مكان يحمله إلى منزله لا خير فيه . ولو شرط الحمل إلى منزله ابتداء قيل يجوز استحسانا .

وروى البلخي عن أصحابنا أنه لا يجوز السلم . وقيل إنما لا يجوز قياسا إذا شرط الإيفاء في موضع ثم الحمل إلى منزله . أما لو شرط الإيفاء في منزله فيجوز قياسا واستحسانا . وفي بيع العين لو شرط على البائع في المصر أن يوفيه إلى منزله والعقد في مصر جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا ، وعند محمد لا يجوز ، هذا إذا لم يكن بين جوانب المصر مسافة بعيدة ، فإن كان لا يجوز البيع .

ولو اشترى طعاما بطعام من جنسه وشرط أحدهما التوفية إلى منزله لم يجز بالإجماع كيفما كان ، ولو شرط أن يوفيه في مكان كذا فسلمه في غيره ودفع الكراء إلى الموضع المشروط صار قابضا ، ولا يجوز [ ص: 97 ] أخذ الكراء وإن شاء رده إليه ليسلمه في المكان المشروط لأنه حقه




الخدمات العلمية