الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ 8 - 16 ] ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة

                                                                                                                                                                                                                                      ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين قال القاشاني: أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السيد المرتضى: هذا تذكير بنعم الله عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم; لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وهديناه النجدين أي: طريقي الخير والشر، قال الإمام: النجد مشهور في الطريق المرتفعة، والمراد بها طريقي الخير والشر; وإنما سماهما نجدين، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة [ ص: 6163 ] مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك، أي: أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبناه الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء. فالذي وهب الإنسان هذه الآلات، وأودع باطنه تلك القوى، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا اقتحم العقبة أي: فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. و (الاقتحام) الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و (العقبة) الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.

                                                                                                                                                                                                                                      وما أدراك ما العقبة أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله بمكانة رفيعة.

                                                                                                                                                                                                                                      فك رقبة أي: عتقها، أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعا به إلى ما فطرت عليه من الحرية.

                                                                                                                                                                                                                                      أو إطعام في يوم ذي مسغبة أي: مجاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      يتيما ذا مقربة أي: قرابة. قال السيد المرتضى: وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين، على الأجانب في الإفضال.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وقد يمكن في "مقربة" أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى، بل من القرب الذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: ذا متربة لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى. وقوله تعالى: أو مسكينا ذا متربة أي: فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال: (ترب)، كأنه لصق بالتراب. ويقال: (فقر مدقع)، و: (فقير مدقع)، بمعنى لاصق بالدقعاء، وهي التراب.

                                                                                                                                                                                                                                      لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      ذهب الأكثرون إلى أن (لا) من قوله "فلا" نافية. وإنما لم تكرر، مع أن العرب لا تكاد تفردها، كما جاء في آية فلا صدق ولا صلى فلا خوف عليهم ولا هم [ ص: 6164 ] يحزنون استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن (لا اقتحم) لما فسر بما بعده كان في قوة: (لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا)، وفي الآية أجوبة أخرى: منها أنه لما عطف عليه، كان وهو منفي أيضا، فكأنها كررت. وقيل: (لا) للدعاء. كقولهم: (لا نجا ولا سلم)، وقيل: مخففة من (ألا) التي للتحضيض. وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل. وقال الإمام: أما ما قيل من أن (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها، ولم تكرر في الآية، فذلك لا يلتفت إليه; لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية