الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  936 26 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن نصر قال : حدثني عبد الرزاق قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني عطاء عن جابر بن عبد الله قال : سمعته يقول : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ، ثم خطب ، فلما فرغ نزل ، فأتى النساء ، فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة ، ( قلت ) لعطاء : زكاة يوم الفطر ؟ قال : لا ، ولكن صدقة يتصدقن حينئذ ، تلقي فتخها ويلقين ، ( قلت ) : أترى حقا على الإمام ذلك ؟ ويذكرهن قال : إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه .

                                                                                                                                                                                  قال ابن جريج : وأخبرني الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة ، ثم يخطب بعد ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال ، فقال : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك الآية ، ثم قال حين فرغ منها : آنتن على ذلك ؟ قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها : نعم لا يدري حسن من هي ، قال : فتصدقن ، فبسط بلال ثوبه ثم قال : هلم ، لكن فداء أبي وأمي ، فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال ، قال عبد الرزاق الفتخ الخواتيم العظام كانت في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : "فأتى النساء فذكرهن" .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم ثمانية : الأول : إسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي البخاري ، الثاني : عبد الرزاق بن همام صاحب المسند ، والمصنف ، الثالث : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وقد تكرر ذكره ، الرابع : عطاء بن أبي رباح ، الخامس : جابر بن عبد الله الأنصاري ، السادس : الحسن بن مسلم بن يناق المكي ، السابع : طاوس بن كيسان ، الثامن : عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر [ ص: 300 ] لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإفراد في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه السماع في موضع ، وفيه القول في تسعة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وأن نسبته إلى جده ، وهو رواية الأصيلي ، فإنه روى عنه في كتابه في مواضع فمرة يقول : حدثنا إسحاق بن نصر فينسبه إلى جده ، ومرة يقول : حدثنا إسحاق بن إبراهيم فينسبه إلى أبيه ، وفيه أن شيخه بخاري سكن المدينة ، والثاني يماني ، والثالث والرابع مكيان ، والسادس كذلك ، والسابع يماني .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في «التفسير" عن محمد بن عبد الرحيم ، وأخرجه مسلم في «الصلاة" عن محمد بن رافع ، وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به ، ولم يذكر حديث عطاء ، عن جابر وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن خلاد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " فلما فرغ ” أي عن الخطبة نزل ، قيل : فيه إشعار أنه كان يخطب على مكان مرتفع لأن النزول يدل على ذلك ، ( واعترض عليه ) بأنه تقدم في «باب الخروج إلى المصلى" أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المصلى على الأرض ، ( وأجيب ) بأن الراوي لعله ضمن النزول معنى الانتقال ، ( قلت ) : يحتمل تعدد القضية ، قوله : " وهو يتوكأ " الواو فيه للحال ، وكذلك الواو في "وبلال" ، قوله : "تلقي" بضم التاء من الإلقاء ، والنساء بالرفع فاعله ، قوله : "قلت لعطاء " القائل هو ابن جريج ، وهو موصول بالإسناد الأول قوله : "زكاة يوم الفطر" كلام إضافي مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع تقدير الاستفهام أي : أهي زكاة يوم الفطر ، وأطلق على صدقة الفطر اسم الزكاة فدل أنها واجبة قوله : "ولكن صدقة" أي ولكن هي صدقة فارتفاعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، قوله : " تلقي " بضم التاء المثناة من فوق من الإلقاء أي تلقي النساء ، والنساء وإن كان جمعا للمرأة من غير لفظه ، ولكنه مفرد لفظا ، قوله : " فتخها " بالنصب مفعول "تلقي" ، الفتخ بفتح الفاء والتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة جمع فتخة وهو خواتم بلا فصوص كأنها حلق ، وسيأتي تفسيره عن قريب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يلقين " من الإلقاء أيضا وإنما كرر ليفيد العموم ، وقال بعضهم : المعنى تلقي الواحدة ، وكذلك الباقيات ، ( قلت ) : التركيب لا يقتضي هذا على ما لا يخفى ، ومفعول "يلقين" محذوف ، وهو كل نوع من أنواع حليهن ، قوله : " قلت لعطاء " القائل هو ابن جريج أيضا والمسئول عطاء ، قوله : "أترى حقا على الإمام ذلك" الهمزة فيه للاستفهام و"حقا" منصوب على أنه مفعول "ترى" ، و"ذلك" إشارة إلى ما ذكر من الوعظ للنساء ، والأمر إياهن بالصدقة ، والظاهر أن عطاء يرى وجوب ذلك ، ولهذا قال عياض : لم يقل بذلك غيره ، والنووي وغيره حملوه على الاستحباب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال ابن جريج : وأخبرني حسن بن مسلم " معطوف على الإسناد الأول ، وقد أخرج مسلم هذا الحديث ، ولكنه قدم الثاني على الأول ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن رافع ، قال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني عطاء "عن جابر بن عبد الله قال : سمعته يقول : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم خطب الناس ، فلما فرغ نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزل فأتى النساء ، فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقين النساء صدقة ، قلت لعطاء : زكاة الفطر ؟ قال : لا ، ولكن صدقة يتصدقن بها حينئذ تلقي المرأة فتخها ، ويلقين ، قلت لعطاء : أحقا على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن ؟ قال : إي لعمري إن ذلك لحق عليهم ، وما لهم لا يفعلون ذلك" ، قوله : " ثم يخطب بعد " لفظ "يخطب" على صيغة المجهول قال الكرماني : معناه ثم يخطب كل واحد ، فعلى تفسيره هو على صيغة المعلوم ، و"بعد" مبني على الضم أي بعد أن يصلوا ، قوله : "خرج النبي صلى الله عليه وسلم" كذا وقع بدون حرف العطف ، قيل : قد حذف منه حرف العطف ، وأصله : وخرج ، ( قلت ) : لا يحتاج إلى ذلك لأن هذا ابتداء كلام من ابن عباس ، قوله : " حين يجلس بيده " بتشديد اللام المكسورة من التجليس ، ومفعوله محذوف أي حين يجلس الناس بيده ، وتفسره رواية مسلم قال : " فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده " ، وذلك لأنهم أرادوا الانصراف فأمرهم بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ، ثم ينصرفوا جميعا أو أنهم أرادوا أن يتبعوه فمنعهم ، وأمرهم بالجلوس ، قوله : " يشقهم" أي يشق صفوف الرجال الجالسين ، قوله : " معه بلال " جملة حالية وقعت بلا واو ، قوله : " فقال : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " أي قال النبي صلى الله عليه وسلم يعني تلا هذه الآية ، وفي صحيح مسلم : "فتلا هذه الآية حتى فرغ منها" ، وهذه الآية الكريمة في سورة الممتحنة : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ثم الآية المذكورة [ ص: 301 ] هي : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم وإنما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة ليذكرهن البيعة التي وقعت بينه وبين النساء لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر الفتح اجتمع الناس للبيعة ، فجلس بهم على الصفا ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء ، وذكر لهن ما ذكر الله في الآية المذكورة ، قوله : " أنتن على ذلك " مقول القول والخطاب للنساء ، أي أنتن على ما ذكر في هذه الآية ، قوله : " فقالت امرأة واحدة منهن ” أي من النساء ، قوله : " نعم " مقول القول أي نعم نحن على ذلك ، قوله : " لا يدري حسن من هي " أي لا يدري حسن بن مسلم الراوي عن طاوس المذكور فيه من هي المرأة المجيبة ، ووقع في رواية مسلم وحده : "لا يدري حينئذ من هي" هكذا وقع في جميع نسخ مسلم ، وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال : هو وغيره ، وهو تصحيف ، وصوابه : "لا يدري حسن من هي" كما في رواية البخاري ، قيل : يحتمل أن تكون هذه المرأة هي أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء ، فإنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه الطبراني وغيره من طريق شهر بن حوشب : "عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء وأنا معهن فقال : يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم ، فناديت رسول الله ، وكنت عليه جريئة : لم يا رسول الله ؟ قال : لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير " ، فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولا بنعم ، فإن القصة واحدة ( قلت ) : هذا تخمين وحسبان ، ويحتمل أن يكون غيرها ، وباب الاحتمال واسع ، قوله : " قال : فتصدقن " هذه صيغة الأمر ، أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، وهذه الصيغة تشترك فيها جماعة النساء من الماضي ، ومن الأمر لهن ، ويفرق بينهما بالقرينة ، ( فإن قلت ) : ما هذه الفاء فيها ؟ ( قلت ) : يجوز أن تكون للجواب لشرط محذوف تقديره : إن كنتن على ذلك فتصدقن ، ويجوز أن تكون للسببية ، قوله : " ثم قال : هلم ” أي ثم قال بلال ، ولفظ هلم من أسماء الأفعال المتعدية نحو : هلم زيدا أي هاته ، وقربه ، وهو مركب من الهاء ولم من لممت الشيء جمعته ، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، تقول : هلم يا رجل ، هلم يا رجلان ، هلم يا رجال ، هلم يا امرأة ، هلم يا امرأتان ، هلم يا نسوة هذه لغة أهل الحجاز ، وأما بنو تميم فيقولون : هلم ، هلما ، هلموا ، هلمي ، هلما ، هلممن ، والأولى أفصح ، ويجيء لازما أيضا قال تعالى : والقائلين لإخوانهم هلم إلينا قوله : " لكن " بضم الكاف وتشديد النون لأنه خطاب للنساء ، فإذا وقع لفظ هلم متعديا تدخل عليه اللام ، يقال : هلم لك ، هلم لكما ، هلم لكم ، هلم لك بكسر الكاف ، هلم لكما ، هلم لكن ، قوله : " فداء " إذا كسر الفاء يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور ، والفداء فكاك الأسير يقال : فداه يفديه فداء ، وفدى وفاداه يفاديه مفاداة إذا أعطى فداءه ، وأنقذه ، وفداه بنفسه ، وفداه إذا قال له : جعلت فداك ، وقيل : المفاداة أن يفتك الأسير بأسير مثله ، قوله : " فداء " مرفوع لأنه خبر لقوله : "أبي وأمي" عطف عليه ، والتقدير : أبي وأمي مفدى لكن ، قوله : " فيلقين " بضم الياء من الإلقاء ، وهو الرمي ، قوله : " الفتخ " منصوب لأنه مفعول "يلقين" ، قوله : " والخواتيم " عطف عليه ، والفتخ بفتحتين جمع فتخة وقد فسرناها عن قريب ، وفسرها عبد الرزاق بما ذكره في الكتاب ، ولكن لم يذكر في أي شيء كانت تلبس ، وقد ذكر ثعلب أنهن كن يلبسنها في أصابع الأرجل ، ولهذا عطف عليها الخواتيم لأنها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي ، وقد ذكرنا عن الخليل أن الفتخ الخواتيم التي لا فصوص لها فعلى هذا يكون هذا من عطف العام على الخاص ، والخواتيم جمع خيتام ، أو خاتام ، وهما لغتان في خاتم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن ، وما يستحب ، وحثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد ، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة ، وقال ابن بطال : أما إتيانه إلى النساء ووعظهن فهو خاص به عند العلماء لأنه أب لهن ، وهم مجمعون أن الخطيب لا يلزمه خطبة أخرى للنساء ، ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء ، وفيه جواز التفدية بالأب والأم ، وفيه ملاطفة العامل على الصدقة بمن يدفعها إليه ، وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ، ثم علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك ، وفيه بذل النصيحة والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك ، وفيه جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين ، وفيه مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت ، وفي ذلك [ ص: 302 ] دلالة على علو مقامهن في الدين وحرصهن على أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه أن قول المخاطب "نعم" يقوم مقام الخطاب ، وفيه أن جواب الواحد كاف عن الجماعة ، وفيه بسط الثوب لقبول الصدقة ، وفيه أن الصلاة يوم العيد مقدمة على الخطبة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية