الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      واختلف هؤلاء في كيفية وقوعها على مذهبين : أحدهما : أنها حقائق وضعها الشارع مبتكرة لم يلاحظ فيها المعنى اللغوي أصلا ، وليس للعرب فيها تصرف ، وهو مذهب المعتزلة . قالوا : وتارة يصادف الوضع الشرعي علاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، فيكون اتفاقيا غير ملتفت إليه ، وتارة لا يصادفه ، وقالوا : نقل الشارع هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية ، وابتداء وضعها لهذه المعاني ، فليست حقائق لغوية ، ولا مجازات عنها . والثاني : أنها مأخوذة من الحقائق اللغوية على سبيل المجاز بأن يكون استعير لفظها للمدلول الشرعي لعلاقة ، وهو اختيار الإمام في " المحصول " ، وهو في الحقيقة توسط بين المذهبين الأولين ، فإنه لم ير أن الشرع نقلها نقلا كليا ، فإن معاني اللغة لا تخلو منها ، ولا استعملها استعمالا كليا ، وإلا لتبادر الذهن إلى حقائقها اللغوية فلم يستعملها في حقيقتها اللغوية ، بل في مجازها اللغوي ، فإن العرب كانوا يتكلمون بالحقيقة كما يتكلمون بالمجاز ، ومن مجازها : تسمية الشيء باسم أجزائه ، والصلاة [ ص: 19 ] كذلك ، فإن الدعاء جزء منها ، بل المقصود منها ، قال : فلم يخرج استعماله عن وضع اللغة . وقد قال ابن السمعاني في ذيل المسألة : وهو ممن صحح الوقوع ردا على من قال من أصحابنا : إنها مجازات شرعية ، ثم قال : والأصح : أنها حقائق شرعية ، ثم حقق ، وقال : ويجوز أن يقال : هذه الأسماء حقائق شرعية فيها معنى اللغة ; لأن الصلاة لا تخلو عن الدعاء في أغلب الأحوال ، والأخرس نادر ، ولأنا لو اعتبرنا ذلك فقد يخلو في بعض المرضى عن معظم الأفعال ، وبهذا اللفظ لا بأس به ا هـ .

                                                      وحاصله : أن الشارع تجوز ، ووضع اللفظ بإزاء المعنى الشرعي وضعا حقيقيا . وقال الغزالي وإمام الحرمين : ثبت منها قصر التسمية على بعض مسمياتها ، فإن الصلاة لغة : الدعاء ، وقصره الشرع على دعاء مخصوص ، وثبت أيضا إطلاقها على الأفعال من السجود ونحوه توسعا واستعارة من الدعاء ، لأن الداعي خاضع ، فكذلك الساجد ، فالمثبت للنقل إن أراد القصر أو التجوز فلا معنى لإنكاره ، وإن أراد غيره فباطل ، ونازعه المازري ، وقال القصر والتجوز لا تغيير فيه ، فإن العرب قد تقصر الشيء على غير ما وضعته له ، ويصير بغلبة الاستعمال حقيقة مهجورة كما في { حرمت عليكم أمهاتكم } لا يفهم منه إلا تحريم الوطء وهو مجاز وفيما قاله نظر ، لأنه يصح أن يقال : الزيادة على وضعهم تغيير ، فكذلك النقص منه ، لتعديه إلى غيره . والتحقيق فيه : أن الموضوعات الشرعية مسميات لم تكن معهودة من

                                                      [ ص: 20 ] قبل فلا بد من أسامي تعرف بها تلك المسميات ، وعند هذا لا بد من الجواب عن شبهة المعتزلة ، فإنهم يقولون : هذا وضع ابتداء من قبل الشارع ، ونحن نقول في الجواب : جعله عرفيا على مثال أهل العرف أولى لوجهين : أحدهما : أن الشارع يضع الشرعيات أبدا على وزن العرفيات حتى تكون الطباع أقبل عليها . الثاني : أن اللفظ أطلق وأمكن اعتباره على الوجه الذي ذكرناه ، فوجب حمله عليه ; لأن الأصل هو التقرير ، وفيما قلناه تقرير من وجه ، وعند هذا يخرج الجواب عن استدلالهم بالآية والخبر ; لأن التعبير بالإيمان عن الصلاة ، وبالصلاة عن الإيمان ، إنما كان لنوع تعلق بينهما ; لأن الصلاة دليل الإيمان ، والإيمان شرط صحة الصلاة ، وفي اللغة يجوز التعبير بأحد المتعلقين عن الآخر . ومن فوائد هذا الخلاف الثاني أنه هل يحتاج المعنى الشرعي إلى علاقة أم لا ؟ فعلى الأول لا يحتاج ، وعلى الثاني نعم . قال الماوردي في كتاب الصلاة من " الحاوي " : والذي عليه جمهور أهل العلم أن الشرع لاحظ فيها المعنى اللغوي . قلت : ونص الشافعي في " الأم " صريح في أنها مجازات لغوية ، قاله ابن اللبان في ترتيب الأم " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية