الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2824 ص: فلما اختلفت الروايات عن رسول الله - عليه السلام - في هذا الباب ، فكان فيما روينا في الفصل الأول إباحة الصلاة على الجنائز في المساجد ، وفيما روينا في الفصل الثاني كراهة ذلك ; احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر منه فنجعله ناسخا لما تقدم من ذلك ، فلما كان حديث عائشة فيه دليل على أنهم قد كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه ، حتى ارتفع ذلك من فعلهم وذهبت معرفة ذلك من عامتهم ، فلم يكن ذلك عندها لكراهة حدثت ، ولكن كان ذلك عندها ; لأن لهم أن يصلوا في المسجد على جنائزهم ولهم أن يصلوا عليها في غيره ، فلا تكون صلاتهم في غيره دليلا على كراهة الصلاة فيه ، كما لم تكن صلاتهم فيه دليلا على كراهة الصلاة في غيره . فقالت بعد رسول - عليه السلام - يوم مات سعد - رضي الله عنه - ما قالت لذلك ، وأنكر ذلك عليها الناس وهم أصحاب رسول الله - عليه السلام - ومن تبعهم ، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - قد علم من رسول الله - عليه السلام - نسخ الصلاة عليهم في المسجد بقول رسول الله - عليه السلام - الذي سمعه منه في ذلك ، وأن ذلك الترك الذي كان من رسول الله - عليه السلام - للصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كان يفعلها فيه ترك نسخ ، فذلك أولى من حديث [ ص: 322 ] عائشة ؛ ; لأن حديث عائشة إخبار عن فعل رسول الله - عليه السلام - في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي ، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله - عليه السلام - الذي قد تقدمته الإباحة ، فصار حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة ; لأنه ناسخ له ، وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة -وهم يومئذ أصحاب رسول الله - عليه السلام -- دليل على أنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها ، وهذا الذي ذكرنا من النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد وكراهتها ، قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وهو قول أبي يوسف أيضا ، غير أن أصحاب الإملاء رووا عن أبي يوسف في ذلك أنه قال : إذا كان مسجد قد أفرد للصلاة على الجنازة فلا بأس بأن يصلى على الجنائز فيه .

                                                التالي السابق


                                                ش: تلخيص هذا الكلام : أن بين حديث أبي هريرة هذا وبين حديث عائشة المذكور في أول الباب اختلافا وتضادا من حيث الظاهر ، والطريق فيه الكشف عن المتأخر من المتقدم ليجعل المتأخر ناسخا للمتقدم ، وحديث عائشة - رضي الله عنها - يدل على أنهم كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تصلى فيه ; إذ لو لم تكن مفعولة في الابتداء ، لما قالت عائشة - رضي الله عنها - : "لقد صلى رسول الله - عليه السلام - على ابني بيضاء في المسجد " . ولو كان فعلها مستمرا إلى آخر الوقت لما أنكر الناس عليها ; لأنهم لو لم يعلموا في ذلك خلاف ما قالت عائشة - رضي الله عنها - لما أنكروا ذلك عليها ، وهم أصحاب رسول الله - عليه السلام - ، فإذا كان كذلك يكون حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة ; لأنه ناسخ له ; لأن حديث عائشة إخبار عن فعله - عليه السلام - في حالة الإباحة التي لم يتقدمها شيء ، وحديث أبي هريرة يخبر عن النهي الوارد على تلك الإباحة ; فهذا عين النسخ .

                                                فإذا قيل : من أي قبيل يكون هذا النسخ ؟

                                                قلت : من قبيل النسخ بدلالة التاريخ ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر والآخر موجبا للإباحة ، ففي مثل هذا يتعين المصير إلى النص الموجب [ ص: 323 ] للحظر ، وإلى الأخذ به ; وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة ، والحظر طارئ عليها ، فيكون متأخرا .

                                                فإن قيل : لم لا تجعل الموجب للإباحة متأخرا ؟

                                                قلت : لأنه لو جعل كذلك لاحتيج إلى إثبات نسخين : نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر ، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة . والله أعلم .

                                                فإن قيل : ليس بين الحديثين مساواة ; لأن حديث عائشة أخرجه مسلم في "صحيحه " وحديث أبي هريرة قد ضعفوه بصالح مولى التوءمة فلا يحتاج على هذا التوفيق ; لأن التوفيق بين النصين المتعارضين إنما يطلب إذا كان بينهما مساواة كما عرف .

                                                قلت : قد بينت لك صحة حديث أبي هريرة بالوجوه المذكورة ، ولا يلزم من ترك مسلم تخريجه أن لا يكون صحيحا ; لأن الشيخين لم يلتزما إخراج كل ما صح عن رسول الله - عليه السلام - ، ولئن سلمنا أن حديث أبي هريرة لا يسلم عن كلام ، فكذلك حديث عائشة لا يخلو عن كلام ; فإن جماعة من الحفاظ مثل الدارقطني وغيره عابوا على مسلم تخريجه إياه مسندا ; لأن الصحيح أنه مرسل كما رواه مالك والماجشون ، عن أبي النضر ، عن عائشة مرسلا ، والمرسل ليس بحجة عند الخصم ، وقد أول بعضهم حديث عائشة بأنه - عليه السلام - إنما صلى في المسجد بعذر المطر ، وقيل : بعذر الاعتكاف ، وعلى كل التقدير الصلاة على الجنازة خارج المسجد أولى وأفضل ; لأنه إذا صلاها خارج المسجد يجوز بلا خلاف من غير كراهة ، وإذا صلاها في المسجد ففيه الخلاف ، فإتيان المتفق عليه أولى -بل أوجب- لا سيما في باب العبادات . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية