الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي ، وبك أثيب ، وبك أعاقب .

التالي السابق


(وقال رسول [ ص: 453 ] الله صلى الله عليه وسلم: أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب) ، قال الشيخ نجم الدين راويه رحمه الله تعالى: استدل به على أن العقل متهيئ لقبول الوحي والإيمان به، وفي رواية: وبك أعبد، إذ كان هو أول من اختص من الله بالوحي، والخطاب والمحبة والمعرفة، والعبادة والعبودية والنبوة بإنباء الحق تعالى إذ نبأه عن معرفة نفسه ومعرفة ربه، وإذا أمعنت النظر، وأيدت بنور الله تحقق لك أن المعرفة بالعقل، والموصوف باختصاص الوحي والخطاب والمحبة والمعرفة والعبادة والعبودية والنبوة هو روح حبيب الله، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذي قال: أول ما خلق الله روحي، وفي رواية: نوري فروحه جوهر نوراني، ونوره هو العقل، وهو عرض قائم بجوهره، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد أي لم يكن يعد روحا ولا جسدا، ومن هنا قال: من عرف نفسه، فقد عرف ربه; لأنه عرف نفسه بتعريف الله، إذ قال له: ما خلقت خلقا أحب إلي منك، وعرف الله أيضا بتعريف الله نفسه إياه; إذ قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلي منك، فعرف أنه الإله الذي من صفاته العزة والجلال، والخالقية، والمحبة وهو المعروف لكل عارف وله القدرة والحكم على الأخذ والعطاء والثواب والعقاب، وهو المستحق للعبادة، وقد جاء عن بعض الكبراء من الأئمة، أن أول المخلوقات ملك كروبي يسمى العقل، وهو صاحب القلم بدليل توجه الخطاب إليه في قوله: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، ولما سماه قلما قال له: أخبر بما هو كائن إلى يوم القيامة، وتسميته قلما كتسمية صاحب السيف سيفا، ولا يبعد أن يسمى روح النبي صلى الله عليه وسلم، ملكا لغلبة صفات الملكية عليه كما يسمى جبريل عليه السلام روحا لغلبة الروحانية عليه، كقوله: فلان شعلة نار لحدة ذهنه، ويسمى عقلا لوفور عقله، وقلما لكتابة المكونات، ونورا لنورانيته، وقد يكون العقل في اللغة، بمعنى العاقل فعلى هذا التقدير والتأويل يكون روح النبي صلى الله عليه وسلم، هو المخلوق الأول، ولكنه بهذه الاعتبارات ملك وعقل، ونور وقلم، والقلم قريب المعنى من العقل، قال الله تعالى: علم بالقلم جاء في التفسير عن بعضهم: أي بالعقل; لأن الأشياء تعلم بالعقل، وفي قوله: أقبل، إلخ، إشارة إلى أن للعقل إقبالا وإدبارا فورث إقباله المقبلون وهم السابقون المقربون من الأنبياء، والأولياء، وهم أصحاب الميمنة، وهم أهل الجنة، وورث إدباره المدبرون، وهم أصحاب المشأمة، وهم أهل النار، يدل عليه قوله تعالى: وكنتم أزواجا ثلاثة الآية، والله أعلم اهـ. كلامه سقته بتمامه; لارتباط بعضه ببعض، ولما فيه من الفوائد .



وأما الكلام على تخريج الحديث، فقال العراقي: روي من حديث أبي أمامة وعائشة وأبي هريرة وابن عباس، والحسن، عن عدة من الصحابة، فأما حديث أبي أمامة فرواه الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ في كتاب فضائل الأعمال من رواية سعيد بن الفضل القرشي، حدثنا عمر بن أبي صالح العتكي، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله العقل" الحديث، ولم يقل: وجلالي، وقال: أعجب إلي منك، وقال: وبك الثواب، وبك العقاب، وعمر بن أبي صالح، ذكره العقيلي في الضعفاء، وأورد له هذا الحديث .

وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف، قال: ثم إن الراوي عنه من المنكرات قال: والخبر باطل اهـ. قلت: ونص العقيلي في الضعفاء: هذا حديث منكر عمر وسعيد الراوي عنه مجهولان جميعا بالنقل، ولا يتابع على حديثه، ولا يثبت .

ثم قال العراقي: وأما حديث عائشة فرواه أبو نعيم في الحلية، قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن يحيى بن معاوية الطلحي بإفادة الدارقطني، عن سهل بن المرزبان بن محمد التميمي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي، عن ابن عيينة عن منصور عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله العقل"، فذكر الحديث، هكذا أورده في ترجمة سفيان بن عيينة، ولم أجد في إسناده أحدا مذكورا بالضعف، ولا شك أن هذا مركب على هذا الإسناد، ولا أدري ممن وقع ذلك والحديث منكر اهـ .

قلت: ولفظ حديث عائشة على ما في الحلية قالت عائشة: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أول ما خلق الله العقل، قال: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: ما خلقت شيئا أحسن [ ص: 454 ] منك بك، آخذ وبك أعطي" قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان ومنصور والزهري، لا أعلم له راويا عن الحميدي إلا سهلا، وأراه واهيا فيه .

ثم قال العراقي: وأما حديث أبي هريرة فرواه الحكيم الترمذي في الأصل السادس بعد المائتين، قال: حدثنا الفضل بن محمد، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، حدثنا يحيى وهو عندي يحيى الغساني، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه، يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النور، وهي الدواة" الحديث، وفيه ثم خلق الله العقل، فقال: "وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن نقصت" وأبو عبد الله هذا لا أدري من هو اهـ .

قلت: وأخرج ابن عساكر في تاريخه فقال: وأخبرنا أبو العز أحمد بن عبد الله، أخبرنا محمد بن أحمد بن حسنون، أخبرنا أبو الحسين الدارقطني، حدثنا القاضي أبو طاهر محمد بن أحمد بن نصر، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق، حدثنا الحسين بن يحيى الخشني، عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح، عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أول شيء خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق، أو أجل، فكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله: ن والقلم وما يسطرون ، ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل، فقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت" فهذه متابعة جيدة لشيخ الحكيم الترمذي إلا أن في شيخ هشام اختلافا، كما ترى .

قلت: أبو عبد الله مولى بني أمية اسمه ناصح ذكره ابن عساكر وقد رواه عن أبي صالح أيضا سمي قال ابن عدي: حدثنا عيسى بن أحمد الصوفي بمصر، حدثنا الربيع ابن سليمان الجيزي، حدثنا محمد بن وهب الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مالك بن أنس، عن سمي، فساقه، إلا أن فيه : "من عمل أو أجل، أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة"، وفيه فقال الجبار: "ما خلقت خلقا أعجب إلي منك" والباقي سواء، قال ابن عدي: باطل منكر، آفته محمد بن وهب، له غير حديث منكر، وقال في الميزان: صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل، وقد أخرجه الدارقطني في الغرائب عن علي بن أحمد الأزرق، عن أحمد بن جعفر بن أحمد الفهري، عن الربيع بن سليمان الجيزي به، وقال: هذا الحديث غير محفوظ، عن مالك ولا عن سمي، والوليد بن مسلم ثقة، ومحمد بن وهب ومن دونه ليس بهم بأس، وأخاف أن يكون دخل على بعضهم حديث في حديث .

وأخرج ابن عدي والبيهقي، كلاهما من رواية حفص بن عمر، حدثنا الفضل بن قيس الرقاشي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة رفعه فساقه بمثل سياق حديث أبي أمامة السابق، والفضل قال فيه: يحيى رجل سوء وحفص بن عمر قاضي حلب، قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يحل الاحتجاج به، وأخرجه الدارقطني من رواية الحسن بن عرفة، حدثنا سيف بن محمد، عن سفيان الثوري، عن الفضيل بن عثمان، عن أبي هريرة به وسيف كذاب بالإجماع .

ثم قال العراقي: وأما حديث الحسن عن عدة فرواه الترمذي الحكيم أيضا قال: حدثنا عبد الرحيم بن حبيب، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا الحسن بن دينار، قال سمعت الحسن، قال: حدثني عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما خلق الله العقل الحديث. وزاد فيه ثم قال له: " اقعد فقعد، ثم قال له: انطلق فانطلق، ثم قال له: اصمت فصمت، فقال: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي وسلطاني وجبروتي ما خلقت خلقا أحب إلي منك ولا أكرم علي منك بك أعرف بك أحمد وبك أطاع، وبك آخذ وبك أعطي، وإياك أعاتب ولك الثواب، وعليك العقاب" ورجاله كلهم هلكى إلا الحسن البصري، وعبد الرحيم بن حبيب القارياني ليس بشيء، قاله يحيى بن معين، وقال ابن حبان: لعله وضع أكثر من خمسمائة حديث، وداود تقدم، والحسن بن دينار ضعيف أيضا، وقد رواه داود بن المحبر في العقل مرسلا، فقال: حدثنا صالح المري، عن الحسن بن أبي الحسين، فذكره أخصر من هذا، وبالجملة: فطرقه كلها ضعيفة اهـ .

قلت: وقال الترمذي الحكيم أيضا: وحدثنا الفضل بن محمد، حدثنا هشام بن خالد، عن بقية عن الأوزاعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وقوله: وقد رواه داود بن [ ص: 455 ] المحبر في العقل مرسلا إلخ، أخرجه البيهقي بعد أن ساق الحديث، من رواية حفص بن عمر السابق، وقال: إسناد غير قوي، وهو مشهور من قول الحسين، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش، أخبرنا أبو طاهر المحمدأبادي، حدثنا الفضل بن محمد بن المسيب، حدثنا عبد الله بن محمد العابسي، حدثنا صالح المري، عن الحسن، قال: لما خلق الله تعالى العقل فساقه، وقال عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد: حدثنا علي بن مسلم حدثنا سيار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار، عن الحسن، يرفعه: "لما خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: ما خلقت شيئا أحسن منك، بك آخذ وبك أعطي" فهذا كما ترى سند جيد، فقول الحافظ العراقي: وبالجملة فطرقه كلها ضعيفة محل تأمل .

وكذا إيراد ابن الجوزي في الموضوعات وتبعه ابن تيمية، والزركشي وغير هؤلاء، فغاية ما يقال فيه: إنه ضعيف في بعض طرقه، وقد روي الحديث أيضا عن علي رضي الله عنه، قال الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة، وقال الخطيب: أخبرني علي بن أحمد الرزاز، أخبرنا الفرج علي بن الحسين الكاتب، أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر القاضي، حدثني محمد بن الحسن الرقي، حدثني موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، حدثتني فاطمة ابنة سعيد بن عقبة بن شداد بن أمية الجهني، عن أبيها، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أول ما خلق الله القلم، ثم خلق الدواة" فساقه، وفيه: "وخلق العقل فاستنطقه، فأجابه ثم قال له: اذهب فذهب، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم استنطقه فأجابه، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت من شيء أحب إلي منك، ولا أحسن منك" إلى آخر ما ذكره .




الخدمات العلمية