الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

أنه من كان مقيما على إحرامه لكونه مفردا ، أو قارنا خرج إلى منى ، ومن كان حلالا فهم قسمان : أهل مكة ، والمتمتعون .

فأما المتمتعون فالسنة أن يحرموا يوم التروية وسواء كانوا قد حلوا من إحرامهم ، أو لم يحلوا لأجل الهدي كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يحرموا .

قال ابن عباس : " فلما قدمنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم [ ص: 481 ] بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي " رواه البخاري .

وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ، ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة " متفق عليه .

وفي رواية لمسلم عن جابر قال : " فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج " .

وفي رواية قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى ، قال : فأهللنا من الأبطح " رواه مسلم .

وقال البخاري : قال أبو الزبير عن جابر : " أهللنا من الأبطح " .

وفي رواية : " حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج " رواه مسلم ، والبخاري تعليقا [ ص: 482 ] ولم يفرق أحمد في استحباب الإحرام يوم التروية بين واجد الهدي وعادمه ، بل أمر بالإحرام يوم التروية المتمتع مطلقا ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو الذي قاله القاضي آخرا هو وعامة أصحابه .

وقال القاضي - في المجرد - : من لم يجد الهدي فإنه يحرم ليلة السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع ، وهي الأيام الثلاثة بعد إحرامه بالحج ; لأن صومها قبل الإحرام بالحج فيه خلاف بين العلماء ، فيتحرز عنه ، وزاد ابن عقيل على هذا فقال : يحرم ليلة السادس ، أو يوم الخامس ليصوم السادس والسابع والثامن .

وهذا كله تصرف بالسنة المسنونة بالرأي ، وليس في شيء مضى من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلا اتباعها ، وقد أمر أصحابه كلهم أن يحرموا يوم التروية ، وكانوا كلهم متمتعين إلا نفرا قليلا ساقوا الهدي ، وأمر من لم يجد الهدي منهم أن يصوموا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ولم يأمره بالإحرام قبل يوم التروية ، ومعلوم علم اليقين أن قوما فيهم عشرات الألوف في ذلك الوقت الضيق ، يكون كثير منهم ، أو أكثرهم غير واجدين للهدي ، فكيف يجوز أن يقال : كان ينبغي لهؤلاء الإحرام يوم السادس والخامس ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالإحرام يوم الثامن ؟ !

[ ص: 483 ] وما ذكروه من الاحتراز من الخلاف فإنما يشرع إذا أورث شبهة ، فإن الاحتراز من الشبهة مشروع .

فإذا وضح الحق وعرفت السنة ، وكان في الاحتراز عما أمر الله به ورسوله فلا معنى له .

وأيضا فإن المتمتع إذا أمر بتقديم الإحرام قل ترفهه وربما لم يمكنه التمتع إذا قدم مكة يوم السادس ، أو السابع ، وفي ذلك إخراج للمتمتع عن وجهه .

وأيضا : فإن الإحرام إنما يشرع عند الشروع في السفر ، ولهذا لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الميقات إلا عند إرادة المسير ، وقد بات فيه ليلة ، والحاج إنما يتوجهون يوم التروية ، ففي الأمر بالإحرام قبلها أمر بالإحرام وهو مقيم ، أو أمر بالتقدم إلى منى ، وكلاهما أمر بخلاف الأفضل المسنون ، فلا يجوز الأمر بذلك .

وأما وقت الاستحباب يوم التروية ، فقال أبو الخطاب : الأفضل أن يحرم يوم التروية بعد الزوال ، وقال القاضي وابن عقيل : يستحب أن يوافي منى بعد الزوال محرما .

وقول أبي الخطاب أجود ; لأن في الحديث : " أمرنا عشية التروية أن نحرم بالحج " .

[ ص: 484 ] وأما مكان الإحرام فالمشهور عند أصحابنا أنه يستحب أن يحرم من جوف الكعبة ; قال أحمد - في رواية المروذي - : فإن كنت متمتعا قصرت من شعرك وحللت ، فإذا كان يوم التروية صليت ركعتين في المسجد الحرام وأهللت بالحج تقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني وأعني عليه ، وإنما تشترط إذا كنت في الحرم ثم قل : لبيك اللهم .... إلى آخره .

وفي موضعه روايتان :

إحداهما : بعد أن تخرج من المسجد ، قال - في رواية عبد الله - : فإذا كان يوم التروية طاف بالبيت ، فإذا خرج من المسجد لبى بالحج ، وقال - أيضا - : قلت لأبي : من أين يهل بالحج ؟ قال : إذا جعل البيت خلف ظهره ، قلت : فإن بعض الناس يقول : يحرم من الميزاب ، قال : إذا جعل البيت خلف ظهره أهل .

والرواية الثانية : يهل من جوف المسجد ، قال - في رواية حرب - في وصف المتعة : ويحل إن لم يكن معه هدي ، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد ، وإن كان ساق الهدي أهل بالحج يوم التروية مع كونه باقيا على إحرامه ، وهذا ظاهر رواية المروذي ، وقد استحب المروذي أن يصلي ركعتين في المسجد ثم يحرم ; لأن الإحرام يستحب أن يكون عقب صلاة كالإحرام من الميقات .

[ ص: 485 ] واستحب في رواية عبد الله أن يطوف حلالا ثم يحرم بعد الطواف ، وهذا الطواف لتوديع البيت لكونه خارجا إلى الحل ، ويستحب لمن خرج إلى الحل أن يودع البيت وأن يحرم عقب الطواف ، كما استحب لمن يحرم بغير مكة أن يحرم عقب الصلاة ، ومتى طاف أحرم عقب ركعتي الطواف .

وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : الذي يحرم من مكة من أين يحرم ؟ قال : إذا توجه إلى منى كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعن الحسن التميمي قال : " قلت لابن عباس إني تمتعت فأنا أريد أن أهل بالحج أين أهل ؟ قال : من حيث شئت ، قلت من المسجد ؟ قال : من المسجد " .

وعن الزبير بن عربي قال : " قلت لابن عمر يا أبا عبد الرحمن ، قال : حسن يا ابن جميل ، فقلت : من أين أهل ومتى أهل ؟ قال : من حيث شئت ومتى شئت " رواهما سعيد .

ووجه الأول : أن كل ميقات فيه مسجد فإنه يستحب الإحرام بعد الصلاة في مسجده كميقات ذي الحليفة .

وأما حديث جابر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالإحرام إذا توجهوا إلى منى ولم يعين مكانا في أمره ; لأن بقاع مكة والحرم مستوية في جواز الإحرام منها ، فأحرم من شاء من الأبطح ، كما أحرم خلق من أصحابه من ذي الحليفة ولم يدخلوا المسجد .

ولو قدم المتمتع الإحرام جاز ; قال الفضل : سألت أبا عبد الله عن متمتع أهل بالحج حين رأى هلال ذي الحجة ؟ فقال : كان ابن عمر يفعل ذلك ، ثم أخر ذلك إلى يوم التروية .

[ ص: 486 ] وقال - في رواية الميموني - : الوجه أن يهل المتمتع بالحج في اليوم الذي أهل فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أهل قبله فجائز .

وأما من كان مقيما بمكة من أهلها وغيرهم ممن اعتمر قبل أشهر الحج أو لم يعتمر ففيهم روايتان ; إحداهما : هم وغيرهم سواء يحرمون بالحج يوم التروية ; قال في رواية أبي طالب في المكي : إذا كان يوم التروية صلى الفجر وطاف بالبيت ، فإذا توجه إلى منى أحرم بالحج ، لقول جابر : " فلما توجهنا أهللنا بالحج " .

والرواية الثانية : يهل إذا رأى الهلال ; قال - في رواية أبي داود - إذا دخل مكة متمتعا يهل بالحج يوم التروية إذا توجه من المسجد إلى منى ، قيل له : فالمكي يهل إذا رأى الهلال ؟ قال : كذا روي عن عمر .

قال القاضي : فقد نص على أن المتمتع يهل يوم التروية ، فالمكي يهل قبل ذلك ، وقال - في موضع آخر - قول أحمد في المكي يهل إذا رأى الهلال حكى في ذلك قول عمر ، والحكم فيه كالحكم في غيره .

واختلف أصحابنا فيما إذا سئل أحمد عن مسألة فقال فيها : قال فلان [ ص: 487 ] كذا وأشار إلى بعض الفقهاء ، فقال ابن حامد : يكون ذلك مذهبا ; لأنه قد استدعي منه الجواب ، فلولا أن ذلك مذهبه لم يكن قد أجاب .

وذهب غيره إلى أنه لا يكون مذهبا له ; لجواز أن يكون قد أخبر بمذهب الغير ليقلده السائل .

فأما إن أخبر بقول صحابي : فهو عندهم مذهب بناء على أن قول الصحابي حجة ، كما لو أخبر بآية أو حديث ولم يتأوله ، ولم يضعفه ، فإنه يكون مذهبا له بلا خلاف .

وذلك لما روى القاسم بن محمد قال : قال عمر : " يا أهل مكة ما لي أرى الناس يقدمون شعثا غبرا وأنتم يفوح من أحدكم ريح المسك ، إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأهلوا " رواه سعيد .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أراد الأضحية إذا دخل العشر أن لا يأخذ [ ص: 488 ] من شعره ولا ظفره ، فالذي يريد الحج أعظم من ذلك ، فيستحب له أن يحرم من أول العشر ، وإن لم يحرم فقد روى عبد الله بن السائب المخزومي قال : قال عمر - رحمه الله - : " تجردوا في الحج وإن لم تحرموا " .

والرواية الأولى : اختيار القاضي وغيره ; لأنه ثبت أنه لا يستحب تقديم الإحرام على الميقات المكاني ، فكذلك على الميقات الزماني .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج حجة الوداع لم ينقل أنه أمر أهل مكة بالإحرام من أول العشر ، ولا قبل يوم التروية .

ولأن السنة للمحرم أن يحرم عند إرادة السفر ; بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بذي الحليفة ولم يحرم حتى أراد الرحيل ، فإما أن يحرم ويقيم مكانه ، أو يقيم بمصر من الأمصار ... ، وبهذا احتج ابن عمر - رضي الله عنه - ; عن عطاء قال : " رأيت ابن عمر - رحمه الله - وهو في المسجد ، فقيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فخلع قميصه ثم أحرم ، ثم رأيته في العام المقبل وهو في البيت ، فقيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فخلع قميصه ثم أحرم ، فلما كان العام الثالث قيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فقال : وما أنا إلا كرجل من أصحابي ، وما أراني أفعل إلا كما فعلوا ، فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء فلما استوت به راحلته أحرم " . وعن مجاهد نحو ذلك ، قال : " يعني فسألته عن ذلك فقال : إني كنت امرأ من أهل المدينة ، فأحببت أن أهل [ ص: 489 ] بإهلالهم ، ثم ذهبت أنظر ، فإذا أنا أدخل على أهلي وأنا محرم ، وأخرج وأنا محرم ، فإذا ذلك لا يصلح ; لأن المحرم إذا أحرم خرج لوجهه ، قلت : فأي ذلك ترى ؟ قال : يوم التروية " رواهما سعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية