الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع ، فلذلك انقسمت الشريعة إلى العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية ، وإلى العبادات المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالزكاة ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة ، وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالبياعات والإجارات ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة بالطاعات على الطاعات ، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان .

أما مصالح الأخرى فلباذليه ، وأما المصالح الدنيا فلآخذيه وقابليه ، وإلى ما يتخير باذلوه بين أن يجعلوه لدنياهم أو أخراهم ، أو أن يشركوا فيه بين دنياهم وأخراهم .

وأما العبادات فأنواع . أحدها : المعارف المختصة بالله - تعالى - ، وكذلك الأحوال المبنية عليها .

النوع الثاني : الأقوال المختصة بالله - تعالى - كالتسبيح والتقديس والتحميد والتهليل والتكبير وسائر المدائح التي بها يمدح الإله .

النوع الثالث : الأفعال المختصة بالله كالحج في العمرة والركوع والسجود والصيام والطواف المجرد والاعتكاف .

النوع الرابع : ما يغلب عليه حق الله وفيه حق للعباد كالصلوات المفروضات والمندوبات .

[ ص: 78 ] النوع الخامس : ما يشتمل على الحقين ويغلب عليه حق العباد كالزكاة والكفارات وستر العورات ، وقد يجتمع الحقان في الدماء ، والأبضاع والأعراض والأنساب .

وأما الأموال فحق الله - تعالى - فيها تابع لحقوق العباد بدليل أنها تباح بإباحتهم ويتصرف فيها بإذنهم ، وفي الجهاد الحقان جميعا .

وأما المعاملات فأنواع . أحدها : ما وضع لإفادة المصالح العاجلة كالبيوع والإجارات وتدخله المصالح الآجلة بالمباحات والمسامحات .

النوع الثاني : ما يكون مصلحة عوضية آجلة كالاستئجار للحج والعمرة بتعليم القرآن ، وكالاستئجار للأذان بالحج أو العمرة أو بتعليم القرآن وكالاستئجار بالحج أو بالعمرة على الصيام ، وكالاستئجار على بناء المساجد بالحج أو الأذان أو تعليم القرآن .

النوع الثالث : ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والثانية آجلة كالقرض ، مصلحته للمقترض عاجلة وللمقرض آجلة إذا قصد به وجه الله ، وكذلك ضمان إحضار ما يجب إحضاره مصلحته العاجلة للمضمون ، والآجلة للضامن إذا قصد به القربة إلى الله - تعالى - .

النوع الرابع : ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والأخرى يتخير باذلها بين تعجيلها وتأجيلها ، أو ما تأجل بعضها دون بعض كضمان الديون مصلحته العاجلة للمضمون له .

وأما الآجلة ، فإن ضمن ذلك بعوض كان كالقرض ، وإن ضمنه مجانا أثيب عليه إن قصد به وجه الله .

وكذلك إن شرط الرجوع بالبعض دون البعض ، وكذلك الحكم في قبول الودائع والأمانات والوكالات مصلحتها العاجلة للمالك والموكل والمودع وفي الآجل للقابل إن قصد به وجه الله .

[ ص: 79 ] النوع الخامس : ما تكون مصلحته الآجلة لباذليه ، والعاجلة لقابليه كالأوقاف والهبات والعواري والوصايا والهدايا .

ومن ذلك المسامحة ببعض الأعواض ، مصلحتها العاجلة للمسامح القابل ، والآجلة للمسامح الباذل .

وأما الولايات ، فإن كانت في إحدى الصلوات المكتوبات فمصلحتها الآجلة مشتركة بين الأئمة والمقتدين ، إذ لا تتم إلا بالفريقين ، وذلك واجب في الجمعات مؤكدة في غيرها من الصلوات .

وأما الصلاة على الأموات ففائدتها للمصلي والمصلى عليه آجلة ، وإن كانت الولاية عليه في غير الصلاة فإن كانت في الحضانة فمصلحتها للمحضون في العاجل والحاضن في الآجل .

وإن كانت في ولاية النكاح فمصلحتها العاجلة لها ، ويثاب عليها الولي إذا قصد القربة في الآجل ، وكذلك المولى عليه إذا كان تائقا إلى النكاح قاصدا للعفاف فإن النكاح للتائق أفضل من التنفل في العبادات ، والولي معين عليه وثواب الإعانة على قدر فضل المعان عليه ، وإن كانت الولاية في الحجر فهو ضربان .

أحدهما : أن يكون الحجر لمصلحة المحجور عليه كالحجر على السفهاء والصبيان والمجانين فمصلحة الحاجر فيه آجلة ومصلحة المحجور عليه عاجلة .

الضرب الثاني : أن يكون الحجر لمصلحة غير المحجور عليه كحجر الرق والفلس والمرض . أما حجر الرق فمصلحته العاجلة للسادات ، والعبد إذا أدى حق الله ، وحق مواليه كان له أجره مرتين .

وأما حجر الفلس فمصلحته العاجلة للغرماء ومصلحته الآجلة للحاكم ، وفيه مصلحة للمحجور عليه من جهة براءة ذمته .

وأما الشهادات ، فإن كانت بحقوق الله الخاصة به فالقيام بها من المصالح [ ص: 80 ] الآجلة ، وإن كانت بحقوق العباد كانت مصالحها العاجلة للمشهود له والآجلة للشاهد إذا قصد بذلك وجه الله ، وإعانة أخيه المؤمن على حفظ حقه . والحكم كالشهادة في ذلك ، وكذلك تصرف الإمام إن تصرف في حقوق الله المحضة ، كانت مصالح تصرفه آجلة ، وإن تصرف في حقوق العباد كانت مصالح العباد عاجلة ومصالح الإمام آجلة ، وإن تصرف لإقامة الحقين حصل المحكوم له على الفوائد العاجلة وحصل الإمام على الأجرين .

وأما الالتقاط ، فمصلحته العاجلة للقيط ومصلحته الآجلة للملتقط .

وأما اللقطة ، فإن قصد الملتقط الحفظ والتعريف كانت المصلحة للمالك في العاجل وللملتقط في الآجل ، وإن التقط للتعريف والتمليك كانت المصلحة العاجلة للمالك وللملتقط مع ما يرجى للملتقط من الأجر في الآجل .

وإن كانت الولاية على القسمة فإن قسمها مجانا كانت الفائدة العاجلة للمقتسمين والآجلة للقاسمين ، لما فيها من إعانة المقتسمين ، وإن كانت بعوض لا مسامحة فيه كانت عاجلة للقاسمين والمقتسمين ، وإن سامح القاسم في الأجرة كان له أجر المسامحين .

التالي السابق


الخدمات العلمية