الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثالث : في صفة القتال ، وفيه سبعة أبحاث ، البحث الأول : الدعوة قبل القتال لقوله تعالى : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ المائدة 67 ] ، وفي ( الكتاب ) : لا نقاتل ولا نبيت قبل الدعوة إلى الله تعالى ، قال ابن القاسم : وكذلك إذا أتوا إلى بلادنا ، قال مالك : ومن قربت داره فلا يدع ولتطلب غرته ، ومن بعد ذلك فالدعوة قطع للشك ، قال يحيى بن سعيد : يجوز ابتغاء غرة العدو ليلا ونهارا ; لبلوغ دعوة الإسلام أقطار الأرض إلا من ترجى إجابته من أهل الحصون فيدعى ، قال مالك : وأما القبط فلا بد من دعوتهم بخلاف الروم ، واختلف في العلة فقيل : لبعد فهمهم ، وقيل : لشرفهم وبسبب مارية وهاجر ؛ لقوله عليه السلام : ( استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم نسبا وصهرا ) قال المازري : ضابط المذهب أن من لا يعلم ما يقاتل عليه وما يدعى إليه ، يدعى ، ومن علم ففيه أقوال : الدعوة على الإطلاق ، وهذا أحد قوليه في ( الكتاب ) [ ص: 403 ] وإسقاطها مطلقا ، رواه ابن سحنون عنه ، والتفرقة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، وهو أحد قوليه في ( الكتاب ) ، والرابع يدعو الجيش الكثير ؛ لأمنه الغائلة دون غيره ، وهو عندي ظاهر كلامه ، وأما إن عاجلنا العدو فلا يدعى ، ولو أمكنت الدعوة وعلمنا أن العدو لا يعلم أيقاتل على الملك أو الدين ؟ دعي ، ولا يحسن الخلاف في هذا القسم ، قال اللخمي : لا خلاف في وجوب الدعوة قبل القتال لمن لم يبلغه أمر الإسلام ، ومن بلغه فأربعة أقسام : واجبة من الجيش العظيم إذا غلب على الظن الإجابة إلى الجزية ; لأنهم قد لا يعلمون قبول ذلك منهم ، ومستحب إذا كانوا عالمين ولا يغلب على الظن إجابتهم ، ومباحة إذا لم يرج قبولهم ، وممنوعة إن خشي أحدهم لحذرهم بسببها .

                                                                                                                واختلف في التبييت فكرهه مالك ، وأجازه محمد لقضية كعب بن الأشرف ، وهو ثلاثة أقسام : من وجبت دعوته لا يجوز تبييته ، ومن تستحب دعوته يكره تبييته ، ومن أبيحت أبيح إلا أن يخشى اختلاط المسلمين بالليل وإذا توجه القتال لا يعملون بالحرب بل المكر والخديعة ، ومعتمد هذه الأقوال : اختلاف الآثار وظاهر القرآن ففي مسلم عن ابن عون : أنه كتب إلى نافع يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه : إنما كان ذلك أول الإسلام قد أغار عليه السلام على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسعى على الماء ، فقتل مقاتليهم وسبى سبيهم . وفيه : كان عليه السلام يغير إذا طلع الفجر ، وكان إذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار . قال أبو الطاهر : في وجوب الدعوة روايات . ثالثها : وجوبها لمن [ ص: 404 ] بعدت عليه داره ، وخيف من عدم علمه بالمقصود ، ورابعها : الجيوش الكبار . واختلف المتأخرون فيها على ثلاث طرق : أحدها المذهب كله على قول واحد ، وتنزيلها على الأحوال ، وثانيها تبقيتها على حالها ، وثالثها أن المذهب على ثلاث روايات الوجوب ، والسقوط ، والتفرقة بين قريب الدار وغيرها .

                                                                                                                وفي ( الجواهر ) : صفة الدعوة أن يعرض عليهم الإسلام ، فإن أجابوا كف عنهم ، وإلا عوضت لهم الجزية فإن أبوا قوتلوا ، وإن أجابوا طولبوا بالانتقال إلى حيث ينالهم سلطاننا ، فإن أجابوا كف عنهم ، وإن أبوا قوتلوا ، قال المازري : وحيث قلنا بالدعوة فقتلوا قبلها واستبيح مالهم فلا دية ولا كفارة ، وقتالهم كقتل المرتد قبل الاستتابة والنساء والصبيان ، وقال ( ش ) : تجب الدية كالذمي والمعاهد ، وجوابه : الفرق بالعهد المانع ، وهاهنا لا عهد ، والدعوة مختلف فيها ، وقال بعض البغداديين : لو أن المقتول تمسك بكتابه وآمن بنبينا ونبيه على جنب ما اقتضاه كتابه ففيه دية مسلم .

                                                                                                                البحث الثاني : في ( الكتاب ) : لا بأس بالجهاد مع ولاة الجور ; لأنه لو ترك لأضر بالمسلمين ، واستدل البخاري على ذلك بقوله عليه السلام : ( الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) ولأنا إن استطعنا إزالة منكرهم أطعنا طاعتين بالجهاد وإزالة المنكرين ، وإلا سقط عنا وجوب الإنكار فنطيع بالجهاد ، قال اللخمي : وروي عن مالك لا يجب الخروج معهم ; لئلا يعينهم على ما يقصدونه من الدماء ، قال اللخمي : لا أرى أن يغزوا معهم إذا لم يوفوا بالعهد ، وهو أشد من تعديهم في الخمس وبشرب الخمور وأنواع الفسوق ، وإنما تكلم مالك في وقت أكثر مجاهديه أهل الخير بتأخرهم يضعف الناس .

                                                                                                                البحث الثالث في ( الكتاب ) : لا بأس بإخراج الأهل إلى السواحل ، ولا [ ص: 405 ] يدرب بهن إلى أرض الحرب ولا العسكر العظيم ؛ لما في البخاري : ( كنا نخرج معه عليه السلام فنسقي القوم ونخدمهم ونسقي الجرحى ونداوي الكلمى ) قال اللخمي : وفي مسلم : ( نهيه عليه السلام عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله يد العدو ) وقاله مالك والأئمة فيكره ذلك ، وإن كان الجيش عظيما خوف سقوطه أو نسيانه ، وإن لم يكن مستظهر الحرام ، وقال ( ح ) : يجوز في الجيوش العظيمة ، قال صاحب ( الإكمال ) : ولم يفرق مالك بين الحالين ، وحكي ذلك عن سحنون وقدماء أصحابه ، وأجاز الفقهاء الكتابة إليهم بالآية ونحوها دعوة إلى الإسلام ; لأنه كتب إليهم : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) [ آل عمران 64 ] الآية ، واختلف في تعليمهم شيئا منه فمنعه مالك صونا عن الاستخفاف ، وأجازه ( ح ) لتوقع الإرشاد ، وعند ( ش ) قولان ، وإن طلبوا مصحفا لينظروا فيه لم يمكنوا فقد كره مالك وغيره معاملتهم بالدنانير عليها اسم الله تعالى ، ولم تحدث سكة الإسلام إلا في زمن عبد الملك بن مروان ، ويروى في زمن عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                البحث الرابع : فيمن يستعان به والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون ، ويجوز بالعبيد بإذن السادة ، وبالمراهقين الأقوياء ، ولا يجوز بالمشركين خلافا ل ( ح ) لنا : ما في مسلم : ( خرج عليه السلام قبل بدر ، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جولة ونجدة ، ففرح أصحابه عليه السلام حين رأوه ، فلما أدركه قال الرجل له عليه السلام : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له عليه السلام : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، ثم مضى حتى أدركنا بالشجرة ، أدركه الرجل ، وقال له كما قال أول مرة ، فقال له [ ص: 406 ] صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال : لا فقال : فارجع فلن نستعين بمشرك ، ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم فقال له عليه السلام : فانطلق ) فقال ابن حبيب : هذا في الصف والزحف ، أما في الهدم والمنجنيق ونحوه فلا بأس ، وقال أيضا : لا بأس أن يقوم بمن سالمه على من حاربه ; لأنه عليه السلام استعان بأهل الكتاب على عبدة الأوثان ، والجواب عن الحدث السابق : أنه عليه السلام تفرس فيه الإسلام إذ منعه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية