الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا اشترى بها سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف رحمهما الله : عليه قيمتها يوم البيع . وقال محمد رحمه الله : قيمتها آخر ما تعامل الناس بها ) لهما أن العقد قد صح إلا أنه تعذر التسليم بالكساد وأنه لا يوجب الفساد ، كما إذا اشترى بالرطب فانقطع أوانه .

وإذا بقي العقد وجبت القيمة ، لكن عند أبي يوسف رحمه الله وقت البيع لأنه مضمون به ، وعند محمد رحمه الله يوم الانقطاع لأنه أوان الانتقال إلى القيمة . ولأبي حنيفة رحمه الله أن الثمن يهلك [ ص: 155 ] بالكساد ; لأن الثمنية بالاصطلاح وما بقي فيبقى بيعا بلا ثمن فيبطل ، وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا كما في البيع الفاسد .

التالي السابق


( و ) من أحكام هذه الدراهم التي غلب غشها أنه ( لو اشترى سلعة بها فكسدت ) أي قبل قبضها ( بطل البيع عند أبي حنيفة ) فإن كان المبيع قائما مقبوضا رده ، وإن كان مستهلكا أو هالكا رجع البائع عليه بقيمته إن كان قيميا ومثله إن كان مثليا ، وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا . وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد : لا يبطل . ثم اختلفوا ( فقال أبو يوسف : عليه قيمتها يوم البيع ) قال في الذخيرة : وعليه الفتوى ( لأنه مضمون به ) أي بالبيع ، وهو نظير قوله في المغصوب إذا هلك أن عليه قيمته يوم الغصب ; لأنه يوم تحقق السبب ( وقال محمد : عليه آخر ما تعامل الناس بها ) وهو يوم الانقطاع ( لأنه أوان الانتقال إلى القيمة ) وفي المحيط والتتمة والحقائق به يفتى رفقا بالناس ( لهما أن البيع قد صح ) بالإجماع ( إلا أنه تعذر التسليم ) أي تسليم الثمن لانعدام الثمنية ( بالكساد ) والضمير ضمير الشأن ( وأنه ) أي الكساد ( لا يوجب الفساد كما إذا اشترى بالرطب ) شيئا ( فانقطع ) في ( أوانه ) بأن لا يوجد في الأسواق لا يبطل اتفاقا وتجب القيمة أو ينتظر زمان الرطب في السنة الثانية فكذا هنا ( ولأبي حنيفة أن الثمن يهلك بالكساد ) لأن مالية [ ص: 155 ] الفلوس والدراهم الغالبة الغش ( بالاصطلاح ) لا بالخلقة ( وما بقي ) الاصطلاح بل انتفى فانتفت الثمنية ( فبقي بيعا بلا ثمن ) بخلاف النقدين فإن ماليتهما بالخلقة لا بالاصطلاح ، كمالية العبد لما كانت بالحياة ذهبت بذهاب الحياة . لا يقال : فلتصر مبيعة إذا انتفت ثمنيتها . لأنا نقول : تصير مبيعة في الذمة والمبيع في الذمة لا يجوز إلا في السلم .

واعترض في بعض الحواشي بأن انتفاء ثمنيتها يوجب أنه يصير بيع مقاصة فلا يستلزم كونه دينا ولا يبطل بعدم القبض قبل الافتراق على ما قدمنا من ثبوت التعيين في البدلين بمجرد العقد فلا يلزم الافتراق عن دين بدين ، إلا أن المجيب نظر إلى أن صورة المسألة أنه باع بدراهم كذا وكذا غلب غشها ، وهذا لا يوجب أنه يصير بيع مقايضة إذا كسدت قبل القبض ، وليس في صورة المسألة أحضر الدراهم وأشار إليها بعينها بل باع بها على نمط ما يباع بالأثمان ، وهذا لأن الفرض أن البيع وقع حال رواجها أثمانا وإنما كسدت بعده قبل القبض ، فلم ينتبه هذا المعترض لصورة المسألة فلم يثبت لزوم كونه بيعا بلا ثمن ، ثم شرط في العيون أن يكون الكساد في سائر البلاد ، فلو كسد في بعض البلاد دون البعض لا يبطل عند أبي حنيفة لأنها لم تهلك ليصير البيع بلا ثمن ولكن تعيبت فيكون البائع بالخيار إن شاء أخذ مثل النقد الذي وقع عليه البيع وإن شاء أخذ قيمته دنانير .

قالوا : وما ذكر في العيون على قول محمد ، وأما على قولهما فلا ، وينبغي أن ينتفي البيع بالكساد في تلك البلدة التي وقع فيها البيع بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين . عندهما يجوز اعتبارا لاصطلاح بعض الناس . وعند محمد لا يجوز اعتبارا لاصطلاح الكل ، فالكساد يجب أن يكون على هذا القياس أيضا ، وما ذكرناه في الكساد مثله في الانقطاع ، والفلوس النافقة إذا كسدت كذلك هذا إذا كسدت أو انقطعت ، فلو تكسد ولم تنقطع ولكن نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع ولا يتخير البائع ، وعكسه لو غلت قيمتها وازدادت فالبيع على حاله ولا [ ص: 156 ] يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع .

والجواب عن البيع بالرطب أن الرطب مرجو الوصول في العام الثاني غالبا فكان له مظنة يغلب ظن وجوده عندها ، بخلاف الكساد فإنه ليس له مظنة محققة الوجود في زمن خاص يرجى فيها بل الظاهر عدم العود ; لأن الأصل في غالبية الغش الكساد وعدم الثمنية ، والشيء إذا رجع إلى أصله قلما ينتقل عنه .

وفي الخلاصة عن المحيط : دلال باع متاع الغير بغير إذنه بدراهم معلومة واستوفاها فكسدت قبل أن يدفعها إلى صاحب المتاع لا يفسد البيع لأن حق القبض له .




الخدمات العلمية