الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( إذا ) عرفنا هذا فنقول : بدأ الكتاب ببيان شركة العنان ، وأنهما كيف يكتبان كتاب هذه الشركة بينهما ، والشركة عقد يمتد فيستحب الكتاب في مثله ; ليكون حكما بينهما فيما يجري من المنازعة . قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . ثم المقصود بالكتاب : التوثق والاحتياط ; فينبغي أن يكتب على أوثق الوجوه ، ويتحرز فيه من طعن كل طاعن . ثم بدأ فقال : ( هذا ما اشترك عليه فلان وفلان ) ، وبعض أصحاب الشروط عابوا عليه في هذا اللفظ ; فقال : هذا إشارة إلى الصك ، فالأحوط أن يكتب : هذا كتاب فيه ذكر ما اشترك فلان وفلان . ولكن محمدا رحمه الله اتبع الكتاب والسنة فيما اختار . قال الله تعالى { : هذا ما توعدون } ، وهو إشارة إلى ما هو المقصود من الوعد للأبرار ، والوعيد للفجار . { ولما اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدا ، أمر أن [ ص: 156 ] يكتب : هذا ما اشترى محمد رسول الله من الغد بن خالد بن هوذة اليهودي } .

( ولما ) { أمر صلى الله عليه وسلم بكتاب الصلح يوم الحديبية كتب علي رضي الله تعالى عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا ما اصطلح محمد بن عبد الله وسهل بن عمرو على أهل مكة ، ثم قال : اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة } ; فإن هذا العقد عقد أمانة ، والمقصود تحصيل الربح ، وذلك بالتقوى وأداء الأمانة يحصل . ( ثم يبين مقدار رأس مال كل واحد منهما ) ; لأن عند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ; ليظهر الربح ، فلا بد من إعلام ذلك في كتاب الشركة ليرجعا إليه عند المنازعة . ثم قال : ( وذلك كله في أيديهما ) . وهذه إشارة إلى أن رأس المال ليس بغائب ، ولا دين ، بل هو عين في أيديهما . ومن الناس من شرط الخلط ، ومنهم من شرط أن يكون المال في أيديهما جميعا . فللتوثق يذكر ذلك ويذكر أنهما يشتريان به ، ويبيعان جميعا في شيء ، ويعمل كل واحد منهما فيه برأيه ، ويبيع بالنقد والنسيئة . " وعندنا " : هذا يملكه كل واحد منهما بمطلق عقد الشركة ، إلا أن من العلماء من يقول : لا يملك كل واحد منهما ذلك ، ما لم يصرحا به في عقد الشركة ، فللتحرز عن قول هذا القائل يكتب هذا . ( ثم يذكر فما كان فيه من ربح فهو بينهما على قدر رءوس أموالهما ، وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك ) . ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف مقدار رأس المال باطل ، واشتراط الربح صحيح " عندنا " خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه على ما نبينه .

وأما مكاتبة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : الربح على ما اشترطا ، والوضيعة على المال . وإنما يذكر هذا ليكون أبعد عن الاختلاف ، ولكن إنما يكتب هذا إذا كان الشرط بينهما هكذا . ثم قال : ( اشتركا على ذلك في شهر كذا من سنة كذا ) . وإنما بتبيين التاريخ تنقطع المنازعة ; حتى لا يدعي أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه قبل هذا التاريخ . ( وكتب ) التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ، فإنه شاور الصحابة - رضوان الله عليهم - في التاريخ : من أي وقت يعتبرونه ؟ فمنهم من قال : من مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من قال : من وقت مبعثه ، ومنهم من قال : من وقت موته ، ثم اتفقوا على التاريخ من وقت الهجرة ، وهو المعروف الذي يتعامل عليه الناس إلى يومنا هذا . قال : ولا يجوز أن يفضل أحدهما صاحبه في الربح ، لا في المال العين ، أو العمل بأيديهما ، أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير . فأما في المال العين : إذا تساويا في رأس المال واشترطا أن يكون الربح بينهما ثلاثا ، أو تفاوتا في رأس المال ، فكان لأحدهما ألف وللآخر ألفان ، واشترطا أن يكون الربح بينهما نصفين : يجوز " عندنا " ، وعلى قول زفر [ ص: 157 ] والشافعي - رحمهما الله تعالى - لا يجوز ، أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فلأن شركة الملك على مذهبه أصل ، وفي شركة الملك لا يجوز أن يستحق أحدهما شيئا من ربح ملك صاحبه ، فكذلك في شركة العقد ، واعتبر الربح بالوضيعة ، فهي بينهما على قدر رءوس أموالهما ، واشتراطهما خلاف ذلك باطل ، فكذلك الربح . ولكنا نقول : استحقاق الربح بالشرط .

فإنما يستحق كل واحد منهما بقدر ما شرط له ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - { المسلمون عند شروطهم } . ثم جواز هذا العقد لحاجة الناس إليه ، والحاجة ماسة إلى هذا الشرط ، فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر في وجوه التجارة ; فلا يرضى بأن يساويه صاحبه في استحقاق الربح مع حذاقته ، وخرق صاحبه . ثم الربح يستحق بالعمل بدون المال - وهو في المضاربة - فبالعمل مع المال أولى . ( ثم ) الوضيعة هلاك جزء من المال ، وكل واحد منهما أمين فيما في يده من مال صاحبه ، واشتراط الضمان على الأمين باطل ، ألا ترى أن في المضاربة لا يجوز اشتراط شيء من الوضيعة على المضارب ، ولهذا يقول زفر رحمه الله : إن التساوي في الربح مع التفاضل في رأس المال لا يجوز هنا ; لأنه لو جاز إنما يجوز بالقياس على المضاربة ، على معنى أن صاحب الألفين يشترط جزءا من الربح للآخر بعمله فيه ، ومثل هذا في المضاربة لا يجوز ; لأن المال في أيديهما هنا ، والعمل مشروط عليهما ، وفي المضاربة لو شرط العمل على رب المال ، أو كون المال في يده : لا يجوز ، ولكنا نقول موجب المضاربة التخلية بين المضارب وبين رأس المال ; فيكون أمينا عاملا فيه ، وذلك ينعدم بهذا الشرط . فأما موجب الشركة ليس هو التخلية بين أحدهما والمال ، فهذا الشرط لا يؤدي إلى إبطال موجب الشركة . ( ثم ) حكم المضاربة هنا ثبت تبعا للشركة ، وقد يثبت الشيء حكما على وجه لا يجوز إثباته قصدا كالكفالة الثابتة في ضمن المفاوضة . وكذلك في العمل بأيديهما يجوز شرط التفاضل في الربح " عندنا " للحاجة إلى ذلك ; فقد يكون أحدهما أحذق في العمل من الآخر . فأما قوله : أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير ، فهو إشارة إلى شركة الوجوه ، فإن التفاضل في الربح هناك لا يجوز عند اشتراط التساوي في ملك المشتري ; لأن ذلك ربح ما لم يضمن ، وقد بينا ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية