الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 205 ] باب ذوي الأرحام ذوي الأرحام وهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب ، وهم أحد عشر حيزا ; ولد البنات ، وولد الأخوات ، وبنات الإخوة ، وولد الإخوة من الأم ، والعمات من جميع الجهات ، والعم من الأم ، والأخوال ، والخالات ، وبنات الأعمام ، والجد أبو الأم ، وكل جدة أدلت بأب بين أمين ، أو بأب أعلى من الجد . فهؤلاء ، ومن أدلى بهم ، يسمون ذوي الأرحام . وكان أبو عبد الله يورثهم إذا لم يكن ذو فرض ، ولا عصبة ، ولا أحد من الوارث ، إلا الزوج ، والزوجة .

                                                                                                                                            روي هذا القول عن عمر ، وعلي ، وعبد الله ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم . وبه قال شريح ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، وعلقمة ، ومسروق ، وأهل الكوفة . وكان زيد لا يورثهم ، ويجعل الباقي لبيت المال . وبه قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي رضي الله عنهم وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير ; لأن عطاء بن يسار روى { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير الله تعالى في العمة والخالة ، فأنزل عليه أن لا ميراث لهما . } رواه سعيد ، في " سننه " ;

                                                                                                                                            لأن العمة ، وابنة الأخ لا ترثان مع أخويهما ، فلا ترثان منفردتين ، كالأجنبيات . وذلك لأن انضمام الأخ إليهما يؤكدهما ويقويهما ، بدليل أن بنات الابن ، والأخوات من الأب ، يعصبهن أخوهن فيما بقي بعد ميراث البنات والأخوات من الأبوين ، ولا يرثن منفردات ، فإذا لم يرث هاتان مع أخيهما ، فمع عدمه أولى . ولأن المواريث إنما تثبت نصا ، ولا نص في هؤلاء .

                                                                                                                                            ولنا قول الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } . أي أحق بالتوارث في حكم الله تعالى . قال أهل العلم : كان التوارث في ابتداء الإسلام بالحلف ، فكان الرجل يقول للرجل : دمي دمك ، ومالي مالك ، تنصرني وأنصرك ، وترثني وأرثك . فيتعاقدان الحلف بينهما على ذلك ، فيتوارثان به دون القرابة ، وذلك قول الله عز وجل : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } .

                                                                                                                                            ثم نسخ ذلك ، وصار التوارث بالإسلام والهجرة ، فإذا كان له ولد ، ولم يهاجر ، ورثه المهاجرون دونه ، وذلك قوله عز وجل : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . ثم نسخ ذلك بقول الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } . وروى الإمام أحمد ، بإسناده ، عن سهل بن حنيف ، أن رجلا رمى رجلا بسهم ، فقتله ، ولم يترك إلا خالا ، فكتب فيه أبو عبيدة إلى عمر ، فكتب إليه عمر ; إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { الخال وارث من لا وارث له } . قال الترمذي : هذا حديث حسن .

                                                                                                                                            وروى المقداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الخال وارث من لا وارث له ، يعقل عنه ، ويرثه } . أخرجه أبو داود . وفي لفظ : [ ص: 206 ] { مولى من لا مولى له ، يعقل عنه ، ويفك عانيه } . فإن قيل : المراد به أن من ليس له إلا خال فلا وراث له ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له ، والماء طيب من لا طيب له ، والصبر حيلة من لا حيلة له .

                                                                                                                                            أو أنه أراد بالخال السلطان . قلنا : هذا فاسد ; لوجوه ثلاثة ; أحدها ، أنه قال : " يرث ماله " ، وفي لفظ قال : " يرثه " . والثاني ، أن الصحابة فهموا ذلك ، فكتب عمر بهذا جوابا لأبي عبيدة حين سأله عن ميراث الخال ، وهم أحق بالفهم والصواب من غيرهم . الثالث ، أنه سماه وارثا ، والأصل الحقيقة . وقولهم : إن هذا يستعمل للنفي . قلنا : والإثبات ، كقولهم : يا عماد من لا عماد له . يا سند من لا سند له . يا ذخر من لا ذخر له .

                                                                                                                                            وقال سعيد : حدثنا أبو شهاب ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، قال : { توفي ثابت ابن الدحداحة ، ولم يدع وارثا ولا عصبة ، فرفع شأنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله إلى ابن أخته أبي لبابة بن عبد المنذر . } ورواه أبو عبيد ، في " الأموال " ، إلا أنه قال : ولم يخلف إلا ابنة أخ له ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه لابنة أخيه .

                                                                                                                                            ولأنه ذو قرابة ، فيرث ، كذوي الفروض ; وذلك لأنه ساوى الناس في الإسلام ، وزاد عليهم بالقرابة ، فكان أولى بماله منهم ، ولهذا كان أحق في الحياة بصدقته وصلته ، وبعد الموت بوصيته ، فأشبه ذوي الفروض والعصبات المحجوبين ، إذا لم يكن من يحجبهم . وحديثهم مرسل . ثم يحتمل أنه لا ميراث لهما مع ذوي الفروض والعصبات ; ولذلك سمي الخال " وارث من لا وارث له " . أي لا يرث إلا عند عدم الوارث . وقولهم : لا يرثان مع أخيهما . قلنا : لأنهما أقوى منهما .

                                                                                                                                            وقولهم : إن الميراث إنما ثبت نصا . قلنا : قد ذكرنا نصوصا . ثم التعليل واجب مهما أمكن ، وقد أمكن هاهنا ، فلا يصار إلى التعبد المحض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية