الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم ) يعني : دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر ، وأظهر المعية وادعى التبعية ، وفيه فوائد نذكرها في مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال : ( ولئن جاء نصر من ربك ) ولم يقل من الله ، مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله : ( أوذي في الله ) وقوله : ( كعذاب الله ) وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة ، والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة ، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة ، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال : ( ولئن جاء نصر من ربك ) والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون : ( إنا كنا معكم ) وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين ، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر ، لكن النصر لا يجيء إلا للمؤمن ، كما قال تعالى : ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) (الروم : 47 ) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر ؛ لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة ، بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين ، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة ، فكذلك المسلم وإن كسر في [ ص: 36 ] الحال فالعاقبة للمتقين ، فالنصر لهم في الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في ( ليقولن ) قراءتان :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : الفتح حملا على قوله : ( من يقول آمنا ) يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول ، وإذا جاء النصر يقول : إنا كنا معكم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيتهما : الضم على الجمع إسنادا للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم ، فإن المنافقين كانوا جماعة ، ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ، ولا يصح ذلك لهم ؛ لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب ، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه ، فيلتبس الأمر عليه ، وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور ، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان ، فلا يلتبس عليه الأمر ، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب ، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر ، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين ، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين ، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم ، والمنافق وإن تكلم فقال : ( وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) وقد سبق تفسيره ، لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك : ( فليعلمن الله الذين صدقوا ) وقال ههنا : ( وليعلمن الله الذين آمنوا ) فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن والكافر ، والكافر في قوله كاذب ، فإنه يقول : الله أكثر من واحد ، والمؤمن في قوله صادق ، فإنه كان يقول الله واحد ، ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر ، فكان الحاصل هناك قسمين صادقا وكاذبا ، وكان ههنا المنافق صادقا في قوله فإنه كان يقول الله واحد ، فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال : ( وليعلمن المنافقين ) واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال : ( وليعلمن الله الذين آمنوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية