الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                139 وحدثني زهير بن حرب وإسحق بن إبراهيم جميعا عن أبي الوليد قال زهير حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن علقمة بن وائل عن وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض فقال أحدهما إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان قال بينتك قال ليس لي بينة قال يمينه قال إذن يذهب بها قال ليس لك إلا ذاك قال فلما قام ليحلف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتطع أرضا ظالما لقي الله وهو عليه غضبان قال إسحق في روايته ربيعة بن عيدان

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                وفيه قول مسلم : ( حدثني زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن أبي الوليد قال زهير حدثنا هشام بن عبد الملك ) هشام هو أبو الوليد .

                                                                                                                وفيه قوله : ( انتزى على أرضي في الجاهلية ) معناه غلب عليها واستولى . والجاهلية ما قبل النبوة لكثرة جهلهم .

                                                                                                                وفيه : ( امرؤ القيس بن عابس وربيعة بن عبدان ) أما ( عابس ) فبالموحدة والسين المهملة . وأما ( عبدان ) فقد ذكر مسلم أن زهيرا وإسحاق اختلفا في ضبطه . وذكر القاضي عياض الأقوال فيه ، واختلاف الرواة فقال : هو بفتح العين وبياء مثناة من تحت هذا صوابه وكذا هو في رواية إسحاق .

                                                                                                                وأما رواية زهير ( فعبدان ) بكسر العين وبباء موحدة قال القاضي [ ص: 322 ] عياض : كذا ضبطناه في الحرفين عن شيوخنا قال : ووقع عند ابن الحذاء عكس ما ضبطناه في رواية زهير بالفتح والمثناة وفي رواية إسحاق بالكسر والموحدة قال الجياني : وكذا هو في الأصل عن الجلودي . قال القاضي : والذي صوبناه أولا هو قول الدارقطني ، وعبد الغني بن سعيد وأبي نصر بن ماكولا ، وكذا قاله ابن يونس في التاريخ : هذا كلام القاضي . وضبطه جماعة من الحفاظ منهم الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي : ( عبدان ) بكسر العين والموحدة وتشديد الدال . والله أعلم .

                                                                                                                وأما أحكام الباب فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه إلى آخره ) فيه لطيفة وهي أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( حق امرئ ) يدخل فيه من حلف على غير مالكجلد الميتة والسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها ، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ، ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة ) ففيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره أحدهما أنه محمول على المستحل لذلك إذا مات على ذلك فإنه يكفر ويخلد في النار ، والثاني معناه فقد استحق النار ، ويجوز العفو عنه ، وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين . وأما تقييده - صلى الله عليه وسلم - بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي بل معناه أن هذا الوعيد الشديد وهو أنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم . وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة . هذا كله على مذهب من يقول بالمفهوم ، وأما من لا يقول به فلا يحتاج إلى تأويل . وقال القاضي عياض - رحمه الله - : تخصيص المسلمين لكونهم المخاطبين وعامة المتعاملين في الشريعة ، لا أن غير المسلم بخلافه ، بل حكمه حكمه في ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                ثم إن هذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة . أما من تاب فندم على فعله ورد الحق إلى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الإثم والله أعلم . وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن له خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - .

                                                                                                                وفيه بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن قضيب من أراك ) .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع ) فالتقييد بكونه فاجرا لا بد منه ومعناه هو آثم ولا يكون آثما إلا إذا كان متعمدا عالما بأنه غير محق .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ) وفي الرواية الأخرى ( وهو عنه معرض ) فقال [ ص: 323 ] العلماء : الإعراض والغضب والسخط من الله تعالى هو إرادته إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته وتعذيبه وإنكار فعله وذمه والله أعلم .

                                                                                                                وأما وحديث الحضرمي والكندي فيه أنواع من العلوم ففيه أن صاحب اليد أولى من أجنبي يدعي عليه .

                                                                                                                وفيه أن المدعى عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر .

                                                                                                                وفيه أن البينة تقدم على اليد ويقضى لصاحبها بغير يمين .

                                                                                                                وفيه أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل وتسقط عنه المطالبة بها .

                                                                                                                وفيه أن أحد الخصمين إذا قال لصاحبه : إنه ظالم أو فاجر أو نحوه في حال الخصومة يحتمل ذلك منه .

                                                                                                                وفيه أن الوارث إذا ادعى شيئا لمورثه وعلم الحاكم أن مورثه مات ولا وارث له سوى هذا المدعي جاز له الحكم به ولم يكلفه حال الدعوى بينة على ذلك وموضع الدلالة أنه قال : ( غلبني على أرض لي كانت لأبي ) فقد أقر بأنها كانت لأبيه فلولا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ورثها وحده لطالبه ببينة على كونه وارثا ثم ببينة أخرى على كونه محقا في دعواه على خصمه فإن قال قائل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( شاهداك ) معناه شاهداك على ما تستحق به انتزاعها ، وإنما يكون ذلك بأن يشهدا بكونه وارثا وحده وأنه ورث الدار فالجواب أن هذا خلاف الظاهر ويجوز أن يكون مرادا . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية