الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
{ فصل }

في الكلام على المقاصة وهذا الفصل بيض له المصنف وألفه تلميذه بهرام فقال ( تجوز المقاصة ) وهي إسقاط ما لك من دين على غريمك في نظير ما له عليك بشروطه وعبر بالجواز إما لأنه الغالب أو لأن المراد به الإذن الصادق بالوجوب إذا حل الدينان أو اتفقا أجلا أو طلبها من حل دينه فإن المذهب وجوب الحكم بها .

واعلم أن الدينين إما من بيع أو من قرض أو مختلفين وفي كل إما أن يكونا عينا أو طعاما أو عرضا فأشار إلى كونهما عينا بقوله ( في ديني العين مطلقا ) أي سواء كانا من بيع أو من قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض [ ص: 228 ] ( إن اتحدا قدرا ) أي وزنا أو عددا ( وصفة ) كمحمدية ومثلها ( حلا ) معا ( أو ) حل ( أحدهما أم لا ) بأن كانا مؤجلين اتفق أجلهما أو اختلف ، ولو حذف هذا اكتفاء بدخوله تحت الإطلاق لكان أخصر ( وإن اختلفا ) أي العينان ( صفة ) أي جودة ورداءة ( مع اتحاد النوع ) كمحمدية ويزيدية ( أو ) مع ( اختلافه ) كذهب وفضة ( فكذلك ) أي تجوز المقاصة ( إن حلا ) معا إذ هي مع اتحاد النوع مبادلة ومع اختلافه صرف ما في الذمة ( وإلا ) بأن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر ( فلا ) تجوز ; لأنها مع اتحاد النوع بدل مستأخر ومع اختلافه صرف مستأخر ( كأن اختلفا زنة من بيع ) فتجوز إن حلا وإلا فلا فهو تشبيه تام على المعتمد لا في قوله فلا فقط ، ومفهوم من بيع أنهما إن كانا من قرض منعت حلا أم لا وإن كانا من بيع وقرض منعت إن لم يحلا أو حل أحدهما ، فإن حلا فإن كان الأكثر هو الذي من بيع منعت ; لأنه قضاء عن قرض بزيادة وإن كان من قرض جازت ; لأنه قضاء عن بيع بزيادة وهي جائزة ( والطعامان ) في المقاصة كلاهما ( من قرض كذلك ) فتجوز إن اتفقا صفة وقدرا حلا أو أحدهما أم لا كأن اختلفا صفة مع اتحاد النوع كسمراء ومحمولة أو اختلافه كقمح وفول فتجوز إن حلا وإلا فلا [ ص: 229 ] كأن اختلفا قدرا ( ومنعا ) أي الطعامان أي منعت المقاصة في الطعامين ( من بيع ولو متفقين ) قدرا وصفة لبيع الطعام قبل قبضه وطعام بطعام ودين بدين نسيئة وهاتان العلتان في غير الحالين ( ومن بيع وقرض ) تجوز إن اتفقا جنسا وصفة وقدرا ( وحلا ) معا ( لا إن لم يحلا أو ) حل ( أحدهما ) فقط فتمنع عند ابن القاسم لاختلاف الأغراض باختلاف الأجل .

التالي السابق


{ فصل في المقاصة } ( قوله بيض له المصنف ) أي ترك المصنف له بياضا ، ثم ذكر بعده باب الرهن ، وإنما ألف بهرام في هذا البياض فصل المقاصة لقوله اعلم أن عادة الأشياخ في الغالب أن يذيلوا هذا الباب أي باب القرض بذكر المقاصة والشيخ رحمه الله تعالى لم يتعرض لذلك فأردت أن أذكر شيئا منها ليكون تتميما لغرض الناظر ا هـ ( قوله إما لأنه الغالب ) أي فيها فغالب أحوالها الجواز ، وأما وجوبها فهو قليل إذ هو في أحوال ثلاثة ( قوله أو لأن المراد به الإذن الصادق بالوجوب ) أي وليس المراد بالجواز المستوي الطرفين القسيم للوجوب لوجوبها إذا حل الدينان إلخ واعترضه بن بأن هذا يقتضي حرمة العدول عنها في صور الوجوب ولو تراضيا على ذلك وليس كذلك بل المراد بالوجوب هنا القضاء بها لطالبها ا هـ أي وحينئذ فالمراد بالجواز في المصنف المستوي الطرفين وهذا لا ينافي القضاء بها لطالبها في هذه الأحوال الثلاثة فتأمل .

( قوله وفي كل إما أن يكونا عينا أو طعاما أو عرضا إلخ ) أي فهذه تسعة أحوال وفي كل إما أن يكون الدينان حالين أو أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو يكونا مؤجلين متفقين في الأجل أو مختلفين فيه فالجملة ست وثلاثون حالة وفي كل إما أن يتحدا قدرا وصفة أو في القدر فقط أو في الصفة فقط أو يختلفا فيهما فالجملة مائة وأربع وأربعون حالة ( قوله إن اتحدا قدرا وصفة ) حاصل ما ذكره المصنف أن ديني العين إن اتفقا قدرا وصفة ففيه اثنتا عشرة صورة كلها [ ص: 228 ] جائزة ، وإن اختلفا صفة ففيه اثنتا عشرة صورة ثلاثة جائزة وتسعة ممنوعة وإن اختلفا قدرا ففيه اثنتا عشرة صورة واحدة جائزة والباقي ممنوع فجملة ما في دين العين ستة وثلاثون .

( قوله إن اتحدا قدرا وصفة ) أي ويلزم من اتحادهما في الصفة اتحادهما في النوع ; لأن المراد بالصفة الجودة والرداءة والذهبية والفضية ( قوله حلا معا ) أي ويقضى بها حينئذ إن طلبها أحدهما ، وقوله أو أحدهما أي ويقضى بها أيضا في هذه الحالة إذا طلبها من حل أجل دينه لا إن طلبها من لم يحل دينه إذ للذي حل دينه الامتناع منها وأخذه لدينه لينتفع به حتى يحل دين الآخر فيقضيه له ، وقوله أم لا أي ويقضى بها أيضا في هذه الحالة إذا اتفق أجل الدينين وطلبها أحدهما ، وإنما جازت المقاصة في هذه الصور الاثنتي عشرة ; لأن المقصود المعاوضة والمبارأة ( قوله ولو حذف هذا ) أي قوله حلا إلخ ( قوله وإن اختلفا صفة ) هذا مفهوم اتحاد الصفة فيما مر أي وإن اختلفا صفة والموضوع أنهما متحدان في القدر أي الوزن أو العدد ( قوله إن حلا معا ) أي سواء كانا من بيع أو من قرض أو اختلفا ( قوله صرف ما في الذمة إلخ ) أي وكلاهما جائز بشرط التعجيل في الأول والحلول في الثاني ( قوله وإلا بأن لم يحلا ) أي واتفقا أجلا أو اختلفا أو حل أحدهما فهذه ثلاثة تضرب في أحوال الإطلاق الثلاثة السابقة فالجملة تسعة ، وحاصلها أن العينين إذا اختلفا صفة واتحد نوعهما أو اختلف نوعهما كانا مؤجلين بأجل واحد أو مختلفي الأجل أو أحدهما حال والآخر مؤجل فالمنع سواء كانا من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض فهذه تسعة .

( قوله كأن اختلفا زنة ) أي كدينار كامل ودينار ناقص ، وقوله من بيع حال أي والحال أنهما من بيع ومثل اختلافهما في الزنة اختلافهما في العدد بل هي أحرى فالمصنف نص على المتوهم فلا حاجة لما قيل إن الأولى أن يقول كأن اختلفا قدرا ، ثم إن قوله كأن اختلفا زنة مفهوم قوله سابقا إن اتحدا قدرا وحاصله أن ديني العين إذا اختلفا في الوزن أو في العدد ، فإن كانا من بيع جازت المقاصة إن حلا ( قوله وإلا فلا ) أي وإلا بأن حل أحدهما دون الآخر أو كانا مؤجلين اتفقا أجلا أو اختلفا فلا تجوز فهذه صور أربعة واحدة جائزة والثلاثة ممنوعة نعم إذا حل أحدهما دون الآخر ، فإن كانت الحالة هي العين الوازنة جازت المقاصة كما يفيده ابن عرفة انظر عبق ( قوله على المعتمد ) أي كما هو قول ابن بشير وارتضاه ابن عرفة ، وقوله لا في قوله إلخ أي لا أنه تشبيه في قوله فلا فقط أي بحيث يكون ماشيا على طريقة ابن شاس وابن الحاجب وحاصلها المنع إذا كان الدينان من بيع حلا أو لم يحلا واتفقا أجلا أو اختلفا أو حل أحدهما لما فيها من المبادلة وأحد العينين أكثر فالخلاف بين القولين فيما إذا حلا فعلى الأول تجوز وعلى الثاني تمنع ( قوله أنهما إن كانا من قرض منعت ) أي في الأحوال الأربعة حلا أو حل أحدهما أو لم يحلا واتفقا أجلا أو اختلفا ( قوله وإن كانا من بيع وقرض منعت إن لم يحلا ) أي سواء اتفقا أجلا أو اختلفا أو حل أحدهما فهذه ثلاثة .

واعلم أن ما ذكره الشارح من التفصيل على الوجه المذكور في العينين المختلفي القدر طريقة ابن بشير واعتمدها ابن عرفة وطريقة غيره المنع مطلقا من غير تفصيل ( قوله كذلك ) أي كدين العين في صور الجواز والمنع وحاصل ما ذكره الشارح أن الطعامين إذا كانا من قرض ففيه اثنتا عشرة صورة ، فإن اتفقا [ ص: 229 ] قدرا وصفة جازت في أربعة ، وإن اختلفا قدرا منع في أربعة ، وإن اختلفا صفة جاز في واحدة ومنع في ثلاثة فقوله فتجوز إن اتفقا صفة ، وقدرا كإردب وإردب من قمح ، وقوله أم لا أي أو لم يحلا اتفقا أجلا أو اختلفا ، وقوله وإلا فلا أي وإلا بأن حل أحدهما أو لم يحلا واتفقا أجلا أو اختلفا فلا تجوز ، وقوله كأن اختلفا قدرا أي فتمنع عند ابن بشير وغيره ; لأنهما من قرض وسواء حلا أو أحدهما أو لم يحلا واتفقا أجلا أو اختلفا .

( قوله ومنعا من بيع ) أي كأن أسلمك على إردب وتسلمني على إردب أو أكثر ، وقوله ومنعا من بيع أي سواء حل أجلهما أو أحدهما أو لم يحلا اتفق أجلهما أو اختلف فصور الطعامين من بيع أربعة وكلها تمنع المقاصة فيها اتفقا قدرا وصفة أو قدرا فقط أو صفة فقط فهي اثنتا عشرة صورة ( قوله ولو متفقين ) رد بلو على أشهب القائل بجوازها عند اتفاق الطعامين في القدر والصفة والحلول بناء على أنها كالإقالة ( قوله لبيع الطعام قبل قبضه ) هذه العلة تجري في الأحوال الأربعة ( قوله نسيئة ) راجع للأمرين قبله لكن يرد أن الدين بالدين لا ينظر له هنا ; لأن المقاصة مستثناة منه ولا شك أن في بعض صورها عدم الحلول فالأولى الاقتصار على قوله وطعام بطعام نسيئة ( قوله في غير الحالين ) أي فهي تجري في أحوال ثلاثة إذا كان الطعامان مؤجلين واتفقا أجلا أو اختلفا فيه أو كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا ( قوله ومن بيع وقرض إلخ ) يعني أن ديني الطعام إذا كان أحدهما من بيع والآخر من قرض تجوز المقاصة فيهما بشرطين الأول أن يتفقا في القدر والصفة والثاني أن يكونا حالين ، وعلة الجواز أن الذي أسلم كأنه اقتضى عن طعام السلم الذي له طعام القرض الذي عليه من نفسه ولا محظور في ذلك ولم ينظروا هنا إلى بيع الطعام قبل قبضه بالنسبة لطعام البيع تغليبا لجانب القرض ; لأنه معروف وانضم إلى ذلك كون المقاصة معروفا أيضا .

{ تنبيه } الطعامان إذا كان أحدهما من بيع والآخر من قرض صوره اثنا عشر وذلك ; لأنهما إذا اتفقا صفة ، وقدرا صوره أربعة تجوز في واحدة وهي إذا حلا وتمنع في ثلاثة إذا حل أحدهما أو لم يحلا واتفقا أجلا أو اختلفا ، وإن اختلفا صفة أو قدرا فالمنع في كل من هاتين الحالتين حلا أو أحدهما أو لم يحلا واتفق الأجلان أو اختلفا فهذه ثمانية وقول الشارح إن اتفقا جنسا وصفة الأولى حذف الجنس والاقتصار على الصفة والقدر ; لأن المراد بالجنس النوع والاتفاق في الصفة يستلزم الاتفاق فيه ( قوله إن اتفقا جنسا ) المراد بالجنس في مسائل الطعام وكذلك العرض النوع ; لأن العرض كله جنس واحد وكذلك الطعام جنس واحد وتحت كل منهما أنواع مختلفة ( قوله لاختلاف الأغراض باختلاف الأجل ) أي وحينئذ فيصح تقدير بيع الطعام قبل قبضه ومقابل ما لابن القاسم من المنع ما لأشهب من الجواز تغليبا للمعروف




الخدمات العلمية