الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  963 [ ص: 31 ] وقال عمر بن حمزة : حدثنا سالم ، عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:


                                                                                                                                                                                  وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل



                                                                                                                                                                                  وهو قول أبي طالب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مناسبة هذا التعليق للترجمة تؤخذ من قوله: " يستسقى " ; لأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يخبر عن استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى وجهه الكريم. ولم يكن استسقاؤه في ذلك إلا عن سؤال عنه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  ويوضح ذلك ما رواه البيهقي في الدلائل، قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا جعفر بن عنبسة ، حدثنا عبادة بن زياد الأزدي عن سعيد بن خيثم ، عن مسلم الملائي ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، والله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثم أنشد:


                                                                                                                                                                                  أتيناك والعذراء يدمى لبانها وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفيه الصبي استكانة
                                                                                                                                                                                  من الجوع ضعفا ما يمر وما يحلي ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
                                                                                                                                                                                  سوى الحنظل العاهي والعلهز الفسل وليس لنا إلا إليك فرارنا
                                                                                                                                                                                  وأين فرار الناس إلا إلى الرسل



                                                                                                                                                                                  فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: اللهم اسقنا"
                                                                                                                                                                                  الحديث. وفيه فجاء أهل البطانة يصيحون: الغرق الغرق! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبي طالب ! لو كان حاضرا لقرت عيناه! من ينشدنا شعره؟ فقال علي : يا رسول الله، كأنك أردت قوله:


                                                                                                                                                                                  وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

                                                                                                                                                                                  ؟ فذكر أبياتا منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، فقام رجل من بني كنانة ، فأنشد أبياتا:


                                                                                                                                                                                  لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر
                                                                                                                                                                                  دعا الله خالقه دعوة وأشخص معها إليه البصر
                                                                                                                                                                                  فلم يك إلا كالف الردا وأسرع حتى رأينا الدرر

                                                                                                                                                                                  فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن يكن شاعر أحسن، فقد أحسنت "
                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  ثم هذا التعليق الذي أورده البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رواه ابن ماجه موصولا في سننه: حدثنا أحمد بن الأزهر عن ابن النضر هاشم بن القاسم ، عن أبي عقيل ، يعني: عبيد الله بن عقيل الثقفي ، حدثنا عمر بن حمزة ، حدثنا سالم ، عن أبيه قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المنبر، فما نزل حتى جيش كل ميزاب بالمدينة ، فذكر قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                  وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

                                                                                                                                                                                  إلى آخره
                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  وعمر بن حمزة هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ابن أخي سالم بن عبد الله بن عمر . أخرج له البخاري في الأدب أيضا، وتكلم فيه أحمد ، والنسائي ، ووثقه ابن حبان ، وقال: كان يخطئ. وقال ابن عدي : وهو ممن يكتب حديثه. وروى له مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . (فإن قلت): عمر بن حمزة هذا متكلم فيه، وكذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار مختلف في الاحتجاج به المذكور في الطريق الموصولة، فكيف أوردهما البخاري في صحيحه؟ (قلت): أجيب بأن إحدى الطريقين اعتضدت بالأخرى، وهو من أمثلة أحد قسمي الصحيح كما تقرر في موضعه، وفيه نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأنا أنظر " - جملة اسمية وقعت حالا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يستسقى " - جملة فعلية وقعت حالا كذلك. قوله: " حتى يجيش " بالجيم، والشين المعجمة من جاش البحر إذا هاج، وجاش القدر جيشانا إذا غلت، وجاش الوادي إذا زخر وامتد جدا، وجاش الشيء إذا تحرك. وهو هنا كناية عن كثرة المطر. والميزاب بكسر الميم، وبالزاي معروف، وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال. ووقع في رواية الحموي " حتى يجيش لك " بتقديم اللام على الكاف، وهو تصحيف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يئط " أي يحن، ويصيح، يريد: ما لنا [ ص: 32 ] بعير أصلا; لأن البعير لا بد أن يئط.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا صبي يغط " من الغطيط، يقال: غط يغط غطا وغطيطا: إذا صاح.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والعذراء " ، وهي الجارية التي لم يمسها رجل، وهي البكر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يدمى لبانها " ، بفتح اللام، وهو الصدر، وأصل اللبان في الفرس موضع اللبن، ثم استعير للناس. ومعنى يدمى لبانها، يعني: يدمى صدرها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تغطيه من تخدمها من الجدب، وشدة الزمان.

                                                                                                                                                                                  وقوله: " استكانة " أي خضوعا، وذلة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ما يمر " ، بضم الياء آخر الحروف، وكسر الميم، وتشديد الراء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا يحلي " ، بضم الياء أيضا، وسكون الحاء المهملة، وكسر اللام، والمعنى ما ينطق بخير، ولا شر من الجوع، والضعف. واشتقاق الأول من المرارة، والثاني من الحلاوة; فالأول كناية عن الشر، والثاني عن الخير.

                                                                                                                                                                                  قوله: " سوى الحنظل العاهي " ، الحنظل معروف، والعاهي فاعل من العاهة، وهي الآفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والعلهز " بكسر العين المهملة، وسكون اللام، وكسر الهاء، وفي آخره زاي، وهو شيء يتخذونه في سني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل، ثم يشوونه بالنار، ويأكلونه. وقيل: كانوا يخلطون فيه القردان، ويقال: القراد الضخم العلهز. وقيل: العلهز شيء ينبت ببلاد بني سليم ، له أصل كأصل البرذي. قال ابن الأثير : ومنه حديث الاستسقاء، وأنشد الأبيات المذكورة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " الفسل " ، بفتح الفاء، وسكون السين المهملة، وهو الشيء الرديء الرذل يقال: فسله، وأفسله، قاله ابن الأثير . ويروى بالشين المعجمة. وقال في باب الشين: الفشل: الفزع، والخوف، والضعف، ومنه حديث الاستسقاء.


                                                                                                                                                                                  سوى الحنظل العاهي والعلهز الفشل



                                                                                                                                                                                  أي: الضعيف، يعني: الفشل مدخره، وأكله، فصرف الوصف إلى العلهز، وهو في الحقيقة لآكله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " الدرر " بكسر الدال، وفتح الراء الأولى جمع درة بكسر الدال، وتشديد الراء، يقال للسحاب: درة، أي صب واندفاق.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية