الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم .

استئناف بياني بين الله به لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على نفسه ، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبيء - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه ، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم : وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير .

وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبيء - صلى الله عليه وسلم - منزلة من لا يعلم أن الله فرض تحلة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيما للقسم . فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء ، هذا قوله تعالى في قصة أيوب ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) كما ذكرناه في تفسيرها و ( فرض ) عين ومنه قوله تعالى ( نصيبا مفروضا ) . وقال : فرض له في العطاء والمعنى : قد بين الله لكم تحلة أيمانكم .

واعلم أنه إن كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا [ ص: 348 ] يعود لشرب شيئا عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى . كان ذلك غير يمين فكان أمر الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطمينا لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقا باليمين وبذلك أخذأبو حنيفة ولم يره مالك يمينا ولا نذرا فقال في الموطأ : ومعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نذر أن يعصي الله فلا يعصه أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله بطاعة إن كلم فلانا ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حلف فقال : ( والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين ) اهـ .

وقد اختلف هل كفر النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه تلك .

فالتحلة على هذا التفسير عند مالك هي : جعل الله ملتزم مثل هذا في حل من التزام ما التزمه . أي موجب التحلل من يمينه .

وعند أبي حنيفة هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحلة اليمين هي الكفارة عند الجميع .

وجملة ( والله مولاكم ) تذييل لجملة ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) . والمولى : الولي ، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه ، وهو هنا كناية عن الرءوف والميسر ، كقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .

وعطف عليها جملة ( وهو العليم الحكيم ) أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه ، أي يجري أحكامه على الحكمة . وهي إعطاء الأفعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات .

واختلف فقهاء الإسلام فيمن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولا وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فتئول إلى سبعة .

أحدها : لا يلزمه شيء سواء كان المحرم زوجا أو غيرها . وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك .

[ ص: 349 ] الثاني : تجب كفارة مثل كفارة اليمين . وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير ، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه . وهذا جار على ظاهر الآية من قوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) .

الثالث : لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل : إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثا ، وإن لم يدخل بها ينو فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور . وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل . ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة . وقاله ابن أبي ليلى وهو عن عبد الملك بن الماجشون في المبسوط . وقيل طلقة بائنة . ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه . وقيل : طلقة رجعية في الزوجة مطلقا ، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيدا لما روي عنه في القول الثاني . وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون ، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فهي واحدة رجعية . وقيل : هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية .

الرابع : قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث . وإن لم ينو شيئا كانت يمينا وعليه كفارة فإن أباها كان موليا .

وتحريم النبيء - صلى الله عليه وسلم - سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحل الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق . و ( تحلة ) تفعلة من حلل جعل الفعل حلالا . وأصله تحللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية