الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذ أسر النبيء إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير

[ ص: 350 ] هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بما حرم على نفسه من جرائهما .

وهو معطوف على جملة ( يا أيها النبيء لم تحرم ما أحل الله لك ) بتقدير واذكر .

وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبنى عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب ومكارم وتنبيه وتحذير .

فاشتملت هذه الآيات على عشرين من معاني ذلك إحداها ما تضمنه قوله ( إلى بعض أزواجه ) .

الثاني : قوله ( فلما نبأت به ) .

الثالث : ( وأظهره الله عليه ) .

الرابع : ( عرف بعضه ) .

الخامس : ( وأعرض عن بعض ) .

السادس : ( قالت من أنبأك هذا ) .

السابع : ( قال نبأني العليم الخبير ) .

الثامن والتاسع والعاشر : ( إن تتوبا إلى الله ) إلى ( فإن الله هو مولاه ) .

الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر : ( وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة ) .

الرابع عشر والخامس عشر : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ) .

السادس عشر : ( خيرا منكن ) .

السابع عشر : ( مسلمات ) إلخ .

الثامن عشر : ( سائحات ) .

التاسع عشر : ( ثيبات وأبكارا ) ، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها .

[ ص: 351 ] العشرون : ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان ( بعض أزواجه ) دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعر به أنها المقصودة باللوم .

وإنما نبأها النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل .

والحديث هو ما حصل من اختلاء النبيء - صلى الله عليه وسلم - بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة هي علي حرام ولا تخبري عائشة وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه - صلى الله عليه وسلم - على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسر إليها .

والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السر غير قصة تحريم النبيء - صلى الله عليه وسلم - على نفسه بعض ما أحل له .

ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبيء - صلى الله عليه وسلم - الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتها حفصة هي عائشة . وفي الصحيح عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها .

وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله .

و ( أسر ) أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوه فيقوله صاحبه سرا والسر ضد الجهر ، قال تعالى ( ويعلم ما تسرون وما تعلنون ) فصار ( أسر ) يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإفشاء ، أي عدم الإظهار قال تعالى ( فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ) .

وأسر : فعل مشتق من السر فإن الهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا سر ، يقال : أسر في نفسه ، إذا كتم سره . ويقال : أسر إليه ، إذا حدثه بسر فكأنه [ ص: 352 ] أنهاه إليه ، ويقال : أسر له إذا أسر أمرا لأجله ، وذلك في إضمار الشر غالبا وأسر بكذا ، أي أخبر بخبر سر ، إذا وضع شيئا خفيا . وفي المثل : ( يسر حسوا في ارتغاء ) .

و ( بعض أزواجه ) هي حفصة بنت عمر بن الخطاب . وعدل عن ذكر اسمها ترفعا عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به . وكذلك طي تعيين المنبأة بالحديث وهي عائشة .

وذكرت حفصة بعنوان أزواجه للإشارة إلى أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - وضع سره في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سر الرجل زوجه . وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سره لأن واجب المرأة أن تحفظ سر زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يحب حفظه .

وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفا .

ونبأ : بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما : أخبر ، وقد جمعهما قوله ( فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) .

وقد قيل : السر أمانة ، أي وإفشاؤه خيانة .

وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة : جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرثنا تنفيثا .

وكلام الحكماء والشعراء في السر وحفظه أكثر من أن يحصى . وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها .

ومعنى ( وأظهره الله عليه ) أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب .

استعير الإظهار إلى الإطلاع لأن إطلاع الله نبيئه - صلى الله عليه وسلم - على السر الذي بين حفصة وعائشة كان غلبة له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سر النبيء - صلى الله عليه وسلم - ومن علمه بذلك بحال من يغالب [ ص: 353 ] غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره . فالإظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار . وليس هو من الظهور ضد الخفاء ، لأنه لا يتعدى بحرف ( على ) .

وضمير ( عليه ) عائد على الإنباء المأخوذ من ( نبأت به ) أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله ( نبأت به ) تقديره : أظهره الله على إفشائه .

وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه عناية ونصح له .

وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفا .

ومفعول ( عرف ) الأول محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي عرفها بعضه ، أي بعض ما أطلعه الله عليه ، وأعرض عن تعريفها ببعضه . والحديث يحتوي على أشياء : اختلاء النبيء بسريته مارية ، وتحريمها على نفسه ، وتناوله العسل في بيت زينب ، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك ، وربما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة ، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية . وإنما عرفها النبيء - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سر زوجها .

وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها .

وإعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه - صلى الله عليه وسلم - في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه .

قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وقال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع .

وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفا .

وقولها ( من أنبأك هذا ) يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرها وعلمت أنه لا قبل للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين .

[ ص: 354 ] والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجيب من علمه بذلك .

وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سر زوجها زلة خلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها ، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سر زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإخلاص للخلائل .

وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفا .

وإيثار وصفي ( العليم الخبير ) هنا دون الاسم العلم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علما وخبرا بكل شيء .

والعليم : القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دال على أكمل العلم ، أي العلم المحيط بكل معلوم .

والخبير : أخص من العليم لأنه مشتق من خبير الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يقال : خبرته ، أي بلوته وتطلعت بواطن أمره ، قال ابن برجان بضم الموحدة وبجيم مشددة في شرح الأسماء : الفرق بين الخبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه ، وأضف ذلك إلى تلك الصفة وسم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حصلت فمتى حصلت من موضع الحضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد . وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير . وكذلك إن حصلت من علم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم ، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبور عن باطنه ببلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبر . والمسمى به الخبير اهـ . وقال الغزالي في المقصد الأسنى : العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا اهـ .

فيتضح أن اتباع وصف ( العليم ) بوصف الخبير إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السر للأخرى .

[ ص: 355 ] وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما غاب إن شاء قال تعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) وتنبيها على ما أبطنته من الأمر .

وهو الأدب السابع مع آداب هذه الآيات .

واعلم أن نبأ وأنبأ مترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف . وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم . والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو : نبأت به . وقد يحذف حرف الجر فيعديان إلى مفعولين ، كقوله هنا ( من أنبأك هذا ) أي بهذا ، وقول الفرزدق :

نبئت عبد الله بالجو أصبحت كراما مواليها لآما ما صميمها

حمله سيبويه على حذف الحرف .

وقد يضمنان معنى : اعلم ، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها     يهدي إلي غرائب الأشعار

ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب ( اعلم ) إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألحق الفراء خبر وأخبر ، وألحق الكوفيون حدث .

قال زكرياء الأنصاري : لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول .

وقرأ الجمهور عرف بالتشديد . وقرأه الكسائي ( عرف ) بتخفيف الراء ، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة ، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم ونحوه كقوله تعالى ( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) . وقول العرب للمسيء : لأعرفن لك هذا . وقولك : لقد عرفت ما صنعت .

التالي السابق


الخدمات العلمية