الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق إياك ، والتخلص من شهود ذكرك ، ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر .

إنما سمي هذا الذكر في هذه الدرجة حقيقيا; لأنه منسوب إلى الرب تعالى ، وأما نسبة الذكر للعبد : فليست حقيقية . فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي ، وهو شهود ذكر الحق عبده وأنه ذكره فيمن اختصه وأهله للقرب منه ولذكره . فجعله ذاكرا له ، ففي الحقيقة : هو الذاكر لنفسه بأن جعل عبده ذاكرا له وأهله لذكره ، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه في باب التوحيد بقوله :


توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

أي هو الذي وحد نفسه في الحقيقة فتوحيد العبد منسوب إليه حقيقة ، ونسبته إلى [ ص: 408 ] العبد غير حقيقية . إذ ذاك لم يكن به ولا منه وإنما هو مجعول فيه فإن سمي موحدا ذاكرا ، فلكونه مجرى ومحلا لما أجري فيه ، كما يسمى أبيض وأسود وطويلا وقصيرا; لكونه محلا لهذه الصفات لا صنع له فيها ولم توجبها مشيئته ولا حوله ولا قوته . هذا مع ما يتصل بذلك من استيلاء القرب والفناء عن الرسم والغيبة بالمشهود عن الشهود وقوة الوارد ، فيتركب من ذلك ذوق خاص : أنه ما وحد الله إلا الله وما ذكر الله إلا الله وما أحب الله إلا الله .

فهذا حقيقة ما عند القوم ، فالعارفون منهم أرباب البصائر أعطوا مع ذلك العبودية حقها والعلم حقه وعرفوا أن العبد عبد حقيقة من كل وجه ، والرب رب حقيقة من كل وجه ، وقاموا بحق العبودية بالله لا بأنفسهم ، ولله لا لحظوظهم وفنوا بمشاهدة معاني أسمائه وصفاته عما سواه ، وبما له محبة ورضا عما به كونا ومشيئة . فإن الكون كله به والذي له : هو محبوبه ومرضيه ، فهو له وبه ، والمنحرفون فنوا بما به عما له ، فوالوا أعداءه وعطلوا دينه وسووا بين محابه ومساخطه ، ومواقع رضاه وغضبه . والله المستعان .

قوله : التخلص من شهود ذكرك . يعني : بفناء شهود ذكره لك عن شهود ذكرك له ، وهذا الشهود يريح العبد من رؤية النفس وملاحظة العمل ويميته ويحييه : يميته عن نفسه ، ويحييه بربه ويفنيه ويقتطعه من نفسه ويوصله بربه ، وهذا هو عين الظفر بالنفس .

قال بعض العارفين : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم .

قوله : ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر .

يعني : أن الباقي مع الذكر يشهد على نفسه أنه ذاكر ، وذلك افتراء منه; فإنه لا فعل له . ولا يزول عنه هذا الافتراء إلا إذا فني عن ذكره فإن شهود ذكره وبقاءه معه افتراء يتضمن نسبة الذكر إليه ، وهي في الحقيقة ليست له .

فيقال : سبحان الله ! أي افتراء في هذا ؟ وهل هذا إلا شهود الحقائق على ما هي عليه ؟ فإنه إذا شهد نفسه ذاكرا بجعل الله له ذاكرا وتأهيله له وتقدم ذكره للعبد على ذكر العبد له ، فاجتمع في شهوده الأمران فأي افتراء هاهنا ؟ ! وهل هذا إلا عين الحق وشهود الحقائق على ما هي عليه ؟ .

نعم الافتراء : أن يشهد ذلك به وبحوله وقوته لا بالله وحده .

لكن الشيخ لا تأخذه في الفناء لومة لائم ، ولا يصغي فيه إلى عاذل .

[ ص: 409 ] والذي لا ريب فيه : أن البقاء في الذكر أكمل من الفناء فيه والغيبة به; لما في البقاء من التفصيل والمعارف وشهود الحقائق على ما هي عليه ، والتمييز بين الرب والعبد وما قام بالعبد وما قام بالرب تعالى وشهود العبودية والمعبود . وليس في الفناء شيء من ذلك ، والفناء - كاسمه - الفناء ، والبقاء بقاء كاسمه ، والفناء مطلوب لغيره والبقاء مطلوب لنفسه والفناء وصف العبد والبقاء وصف الرب . والفناء عدم والبقاء وجود والفناء نفي والبقاء إثبات والسلوك على درب الفناء مخطر ، وكم به من مفازة ومهلكة ، والسلوك على درب البقاء آمن; فإنه درب عليه الأعلام والهداة والخفراء ، ولكن أصحاب الفناء يزعمون أنه طويل ولا يشكون في سلامته وإيصاله إلى المطلوب ، ولكنهم يزعمون أن درب الفناء أقرب وراكبه طائر وراكب درب البقاء سائر ، والكمل من السائرين يرون الفناء منزلة من منازل الطريق وليس نزولها عاما لكل سائر ، بل منهم من لا يراها ولا يمر بها ، وإنما الدرب الأعظم والطريق الأقوم هو درب البقاء . ويحتجون على صاحب الفناء بالانتقال إليه من الفناء ، وإلا فهو عندهم على خطر ، والله المستعان وهو سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية