الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4554 [ 2406 ] وعن أبي بردة، عن أبيه قال : لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة ، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، فقال أبو موسى : وبعثني مع أبي عامر . قال : فرمي أبو عامر في ركبته ؛ رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت : يا عم ، من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى أبي موسى فقال : إن ذاك قاتلي ، تراه ذاك الذي رماني ؟ قال أبو موسى : فقصدت له فاعتمدته فلحقته، فلما رآني ولى عني ذاهبا ، فاتبعته، وجعلت أقول له : ألا تستحي؟ ألست عربيا؟ ألا تثبت ؟ فكف ، فالتقيت أنا وهو ، فاختلفنا أنا وهو ضربتين، فضربته بالسيف فقتلته ، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت : إن الله قد قتل صاحبك ! قال : فانزع هذا السهم ! فنزعته فنزا منه الماء، فقال : يا ابن أخي ، انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام، وقل له : يقول لك استغفر لي ! قال : واستعملني أبو عامر على الناس، ومكث يسيرا ثم إنه مات، فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل عليه فراش، قد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقلت له : قال : قل له: يستغفر لي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه، ثم رفع يديه، ثم قال : اللهم اغفر لعبيد - أبي عامر - حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال : اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو من الناس ، فقلت : ولي يا رسول الله فاستغفر ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما" . قال أبو بردة : إحداهما لأبي عامر ، والأخرى لأبي موسى .

                                                                                              رواه البخاري (2884)، ومسلم (2498).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قول أبي عامر " إن ذاك قاتلي ، تراه ذاك الذي رماني ؟ " ) ، كذا الرواية الصحيحة " تراه " بالتاء باثنتين من فوقها ، والكلام كله لأبي عامر ، وكأن الذي رمى [ ص: 449 ] أبا عامر كان قريبا منهما ، فأشار إليه بذلك مرتين تقريبا له ، وأكد ذلك بقوله " تراه " ، فكأنه قال : الذي تراه ، ووقع في بعض النسخ ذلك بلام البعد ، وفيه بعد ، وقرأه بالفاء ، فكأنه من قول الراوي خبرا عن أبي موسى أنه رأى القاتل ، والأول أصح .

                                                                                              و (قوله : فنزا منه الماء ) ؛ أي : خرج الماء بسرعة إثر خروج السهم ، وأصل النزو : الارتفاع والوثب .

                                                                                              و (قوله : واستعملني عامر على الناس ) فيه ما يدل على أن الوالي إذا عرض له أمر جاز أن يستنيب غيره .

                                                                                              و (قوله : فوجدته على حصير مرمل ، قد أثر رمال الحصير في ظهره ) صحيح الرواية فيه " مرمل " بضم الميم الأولى ، فسكن الراء ، مفتوح الميم الثانية . وهو من أرملت الحصير إذا شققته ونسجته بشريط أو غيره ، قال الشاعر :


                                                                                              إذ لا يزال على طريق لاحب وكأن صفحته حصير مرمل

                                                                                              [ ص: 450 ] ويقال : رملت الحصير أيضا - ثلاثيا ، ورمال الحصير : هو ما يؤثر منه في جنب المضطجع عليه .

                                                                                              و (قوله : وعليه فراش ) كذا صحت الرواية بإثبات الفراش ، وقال القابسي : الذي أعرف " وما عليه فراش " .

                                                                                              قلت : وأستبعد أن يكون عليه فراش ويؤثر في ظهره ، وإنما يستبعد ذلك إذا كان الفراش كثيفا وثيرا ، ولم يكن فراش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك ، فلا يستبعد .

                                                                                              و (قوله : فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماء فتوضأ منه ، ثم رفع يديه ) ، ظاهر هذا الوضوء أنه كان للدعاء ، إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء ، ففيه ما يدل على مشروعية الوضوء للدعاء ولذكر الله كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة " .

                                                                                              و (قوله " ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه " ) دليل على استحباب الرفع عند الدعاء ، وقد فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك يوم بدر وفي الاستسقاء ، وقد رويت كراهية ذلك عن مالك ، ويمكن أن يقال : إنما كره أن يتخذ ذلك سنة راتبة على أصله في هذا الباب أو مخافة أن يعتقد الجهال مكانا لله تعالى ، والذي يزيل هذا الوهم أن [ ص: 451 ] يقال : لا يلزم من مد الأيدي إلى السماء أن يكون مكانا لله ولا جهة ، كما لا يلزم من استقبال الكعبة أن يكون الله تعالى فيها ، بل السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ، والباري تعالى منزه عن الاختصاص بالأمكنة والجهات ، إذ ذاك من لوازم المحدثات ، ولقد أحسن من قال : لو كان الباري تعالى في شيء لكان محصورا ، ولو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان من شيء لكان محدثا .

                                                                                              وقد حصل أبو موسى على مثل ما حصل لعمه أبي عامر من استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاده: " وأدخله مدخلا كريما " ليلحقه بمنزلة أبي عامر في الجنة لأنه قتل قاتله ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية