الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما كيفية فرضيتها .

                                                                                                                                فقد اختلف فيها قال أبو حنيفة وأبو يوسف : إن فرض الوقت هو الظهر في حق المعذور وغير المعذور لكن غير المعذور وهو الصحيح المقيم الحر مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة حتما ، والمعذور مأمور بإسقاطه على سبيل الرخصة حتى لو أدى الجمعة يسقط عنه الظهر وتقع الجمعة فرضا ، وإن ترك الترخص يعود الأمر إلى العزيمة ويكون الفرض هو الظهر لا غير ، وعن محمد قولان في قول قال : فرض الوقت هو الجمعة ولكن له أن يسقطه بالظهر رخصة ، وفي قول قال : الفرض أحدهما غير عين ويتعين ذلك بتعيينه فعلا فأيهما فعل تبين أنه هو الفرض ، وقال زفر وقت الفرض هو الجمعة والظهر بدل عنها وهذا كله قول أصحابنا ، وقال الشافعي : الجمعة ظهر قاصر ، وعندنا هي صلاة مبتدأة غير صلاة الظهر ، وفائدة الاختلاف تظهر في بناء الظهر على تحريمة الجمعة بأن خرج [ ص: 257 ] وقت الظهر وهو في صلاة الجمعة فعند أصحابنا يستقبل الظهر ، وعنده يتمها ظهرا .

                                                                                                                                أما الكلام مع الشافعي فإنه احتج بما روي عن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا : إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة ولأن الوقت سبب لوجوب الظهر والوقت متى جعل سببا لوجوب صلاة كان سببا لوجوبها في كل يوم كسائر أوقات الصلاة ، ثم إذا وجد سبب القصر تقصر كما تقصر بعذر السفر وههنا وجد سبب القصر وهو الخطبة ومشقة قطع المسافة إلى الجامع ، ولنا أن الجمعة مع الظهر صلاتان متغايرتان ; لأنهما مختلفتان شروطا لما نذكر اختصاص الجمعة بشروط ليست للظهر والفرص الواحد لا تختلف شروطه بالقصر فكانا غيرين فلا يصح بناء أحدهما على الآخر كبناء العصر على الظهر بعد خروج وقت الظهر .

                                                                                                                                وأما حديث عمر وعائشة رضي الله عنهما ففيه بيان علة القصر ، أما ليس فيه أن المقصور ظهر ؟ وما ذكره من المعنى غير سديد ; لأن الوقت قد يخلو عن فرضه أداء لعذر من الأعذار كوقت العصر عن العصر يوم عرفة بعرفة ، ووقت المغرب عن المغرب ليلة المزدلفة فكذا ههنا جاز أن يخلو وقت الظهر عن الظهر أداء إن كان لا يخلو عنه وجوبا لكنه يسقط عنه بأداء الجمعة على ما نذكر .

                                                                                                                                وأما الخلاف بين أصحابنا رحمهم الله فبناء على الخلاف في كيفية العمل بالأحاديث المشهورة المتعارضة من حيث الظاهر فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { وأول وقت الظهر حين تزول الشمس } ونحو ذلك من الأحاديث من غير فصل بين الجمعة وغيره ، وقد وردت الأحاديث المشهورة في فرضية صلاة الجمعة في هذا الوقت بعينه على ما ذكرنا والجمع بينهما فعلا غير مشروع بلا خلاف بين الأئمة فمحمد رحمه الله على أحد قوليه عمل بطريق التناسخ فجعل الآخر وهو حديث الجمعة ناسخا للأول على ما هو الأصل عند معرفة التاريخ إلا أنه رخص له أن يسقط الجمعة بالظهر ، وعلى القول الآخر قال : إنه قام دليل فرضية كل واحدة من الصلاتين ولا سبيل إلى القول بفرضيتهما على الجمع ، ولهذا لو فعل إحداهما أيتهما كانت سقط الفرض عنه فكان الفرض إحداهما غير عين وإنما يتعين بفعله ، وأبو حنيفة وأبو يوسف عملا بالأحاديث بطريق التوفيق إذ العمل بالحديثين أولى من نسخ أحدهما ، فقالا إن : فرض الوقت هو الظهر لكن أمر بإسقاط الظهر بالجمعة ليكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان ولهذا يجب قضاء الظهر بعد فوت الجمعة وخروج الوقت والقضاء خلف عن الأداء دل أن الظهر هو الأصل إذ الأربع لا تصلح أن تكون خلفا عن ركعتين وزفر يقول : لما انتسخ الظهر بالجمعة دل أن الجمعة أصل ، ولما وجب القضاء بعد خروج الوقت بأداء الظهر دل أنه بدل عن الجمعة إذا عرف هذا الأصل تخرج عليه المسائل فنقول : من يصلي الظهر يوم الجمعة وهو غير معذور قبل صلاة الجمعة ولم يحضر الجمعة بعد ذلك ولم يؤدها يقع فرضا عند علمائنا الثلاثة حتى لا تلزمه الإعادة خلافا لزفر ، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأنه أدى فرض الوقت ; لأن فرض الوقت هو الظهر عندهما ولكنه أمر بإسقاطه بأداء الجمعة فإذا لم يؤد الجمعة بقي الفرض ذلك فإذا أداه فقد أدى فرض الوقت فلا يلزمه الإعادة .

                                                                                                                                وأما عند محمد فعلى أحد قوليه ، الفرض أحدهما غير عين ويتعين بفعله ، فإذا صلى الظهر تعين فرضا من الأصل ، وعلى قوله الآخر فرض الوقت وإن كان هو الجمعة وهي العزيمة لكن له أن يسقطها بالظهر رخصة وقد ترخص بالظهر وفي قول زفر لما كان الظهر بدلا عن الجمعة ، وإنما يجوز البدل عند العجز عن الأصل كما في التراب مع الماء وههنا هو قادر على الأصل فلا يجزيه البدل فتلزمه الإعادة ، وعلى هذا يخرج المعذور كالمريض والمسافر إذا صلى الظهر في بيته وحده أنه يقع فرضا في قول أصحابنا جميعا على اختلاف طرقهم .

                                                                                                                                أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأن فرض الوقت هو الظهر إلا أن غير المعذور مأمور بإسقاطه بالجمعة على طريق الحتم ، والمعذور مأمور بإسقاطه بالجمعة بطريق الرخصة ولم يترخص فبقيت العزيمة وهي الظهر وقد أداها فتقع فرضا .

                                                                                                                                وأما عند محمد فلأن الجمعة فرض عليه على طريق العزيمة لكن مع رخصة الترك وقد ترخص بتركها بالظهر .

                                                                                                                                وأما على قول زفر فلأن المفروض عليه الظهر بدلا عن الجمعة بعذر المرض والسفر وعلى هذا يخرج المعذور إذا صلى الظهر في بيته ثم شهد الجمعة وصلاها مع الإمام أنه يرتفض ظهره ويصير تطوعا ، وفرضه الجمعة في قول أصحابنا الثلاثة ; لأن القادر مأمور بإسقاط الظهر بالجمعة [ ص: 258 ] وقد قدر فإذا أدى انعقدت جمعته فرضا ولا تنعقد فرضا إلا بعد ارتفاض الظهر ; لأن اجتماع فرضي الوقت لا يتصور فيرتفض ظهره ضرورة انعقاد الجمعة فرضا ، وعند زفر لا يرتفض ظهره ; لأن الظهر عنده خلف عن الجمعة فكان شرطه العجز عن الأصل وقد تحقق عند الأداء فصح الخلف فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا تبطله .

                                                                                                                                وأما غير المعذور إذا صلى الظهر في بيته ثم خرج إلى الجمعة فهذا على أربعة أوجه : أحدها إذا خرج من بيته وكان الإمام قد فرغ من الجمعة حين خرج لا يرتفض ظهره بالإجماع ، والثاني إذا حضر الجامع وشرع في الجمعة وأتمها مع الإمام يرتفض ظهره عند علمائنا الثلاثة لما ذكرنا .

                                                                                                                                وأما عند زفر فلا يقع ظهره فرضا أصلا ; لأنه خلف فيشترط له العجز عن الأصل ولم يوجد ، والثالث إذا شرع في الجمعة ثم تكلم قبل إتمام الجمعة مع الإمام يرتفض ظهره في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يرتفض ، كذا ذكر الحسن بن زياد الاختلاف في كتاب صلاته ، والرابع إذا حضر الجامع وقد كان فرغ الإمام من الجمعة وحين خرج من البيت كان لم يفرغ فهو على هذا الاختلاف ، وحاصل الاختلاف أن عند أبي حنيفة بأداء بعض الجمعة يرتفض ظهره ، وكذا بوجود ما هو من خصائص الجمعة وهو السعي ، وعندهما لا يرتفض .

                                                                                                                                وجه قولهما في المسألتين أن ارتفاض الظهر لضرورة صيرورة الجمعة فرضا ; لأن اجتماع فرضي الوقت لا يتحقق ولم يوجد فلم يرتفض الظهر وهذا ; لأن الحكم ببطلان ما صح وفرغ منه من حيث الظاهر لا يكون إلا عن ضرورة ولا ضرورة قبل تمام الجمعة ووقوعها فرضا ، ولأبي حنيفة أن ما أدى من البعض انعقد فرضا ولم ينعقد الفعل من الجمعة مع بقاء الظهر فرضا فكان من ضرورة انعقاد هذا الجزء من الجمعة فرضا ارتفاض الظهر ، وكذا السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة فكان ملحقا بها ولن ينعقد فرضا مع بقاء الظهر فرضا ، وكان من ضرورة وقوعه فرضا ارتفاض الظهر ، به علل هذا الشيخ أبو منصور الماتريدي .

                                                                                                                                وعلى هذا إذا شرع الرجل في صلاة الجمعة ثم تذكر أن عليه الفجر فهذا على ثلاثة أوجه : إن كان بحال لو اشتغل بالفجر لا تفوته الجمعة فعليه أن يقطع الجمعة ويبدأ بالفجر ثم بالجمعة مراعاة للترتيب فإنه واجب عندنا ، وإن كان بحال لو اشتغل بالفجر تفوته الجمعة والظهر عن الوقت يمضي فيها ولا يقطع بالإجماع ; لأن الترتيب ساقط عنه لضيق الوقت ، وإن كان بحال لو اشتغل بالفجر تفوته الجمعة ولكن لا يفوته الظهر فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي الفجر ثم يصلي الظهر ولا تجزئه الجمعة ، وعلى قول محمد يمضي في الجمعة ولا يقطع ; لأن عنده فرض الوقت هو الجمعة وهو يخاف فوتها لو اشتغل بالفجر فيسقط عنه الترتيب ، كما لو تذكر العشاء في صلاة الفجر وهو يخالف طلوع الشمس لو اشتغل بالعشاء ، وعندهما فرض الوقت هو الظهر وأنه لا يفوت بالاشتغال بالفائتة فلا يسقط الترتيب والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية