الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتقطع الجهات للعمارة إن لم يخف ضرر بين فتح ، فإن خيف كإمام وخطيب وفراش قدموا [ ص: 369 ] فيعطى المشروط لهم

التالي السابق


مطلب في قطع الجهات لأجل العمارة ( قوله : وتقطع الجهات ) أي تمنع من الصرف إليها ، وعبارة الفتح وتقطع الجهات الموقوف عليها للعمارة إن لم يخف ضرر بين فإن خيف قدم ا هـ أي إن من يخاف بقطعه ضرر بين كإمام ونحوه يقدم أي على بقية المستحقين ممن ليس في قطعهم ضرر بين لا على العمارة فافهم ، إلا أن يكون المراد العمارة الغير الضرورية ، فإن الإمام يقدم عليها ويحتمل أن المراد من قوله : قدم أنه لا يقطع بقرينة صدر العبارة ، لكن يصير مفاده أن من في قطعه ضرر بين يساوي العمارة فيصرف أولا إليها وإليه وهو خلاف المفاد من التعبير بثم في عبارة الحاوي كما مر ، فإما أن يراد بثم معنى الواو كما هو مفاد كلام البحر ، أو يراد بالعمارة فيما مر الضرورية كرفع سقف أو جدار ، فيصرف الريع إليها أولا كما هو مفاد المتون ، ثم الفاضل إلى الجهات الضرورية الأهم فالأهم دون غيرها كالشاهد والجابي وخازن الكتب ونحوهم ، ويراد بما في الفتح العمارة الغير الضرورية فتقدم الجهات الضرورية عليها أو تشاركها إذا كان الريع يكفي كلا منهما ، ثم لا يخفى أنه لو احتيج قطع الكل للعمارة الضرورية قدمت على جميع الجهات ; إذ ليس من النظر خراب المسجد لأجل إمام ومؤذن . فالحاصل : أن الترتيب المستفاد من عبارة الحاوي بالنظر إلى تقديم العمارة الضرورية ، على جميع الجهات ، [ ص: 369 ] والمشاركة المفادة من عبارة الفتح بالنظر إلى غير الضرورية أو إذا كان في الريع زيادة على الضرورية ، ثم رأيت في حاشية الأشباه التصريح بحمل ما في الحاوي على ما قلنا ( قوله : فيعطى المشروط لهم ) برفع المشروط نائب فاعل يعطى ، وفي بعض النسخ فيعطوا بالجزم بحذف النون عطفا على قدموا ونصب المشروط مفعول ثان . واعترض بأن ما ذكره تابع فيه النهر وهو خلاف ما مر من أنهم يعطون بقدر كفايتهم ، وخلاف ما في البحر من أخذ قدر الأجرة .

قلت : لا يخفى على أن قول الفتح المار ، وتقطع الجهات إلخ معناه أن من يخاف بقطعه ضرر بين لا يقطع معلومه المشروط له بل يقدم ويأخذه بخلاف غيره من المستحقين كالناظر والشاد والمباشر ونحو ذلك فإنه يقطع ولا يعطى شيئا أي إلا إذا عمل زمن العمارة ، فله قدر أجرته فقط لا المشروط ، فإنه في الفتح قال بعد قوله قدم ، وأما الناظر فإن كان المشروط له من الواقف فهو كأحد المستحقين فإذا قطعوا للعمارة قطع إلا أن يعمل كالفاعل والبناء ونحوهما فيأخذ قدر أجرته وإن لم يعمل لا يأخذ شيئا ا هـ ولهذا قال في النهر : وأفاد في البحر أن مما يخاف بقطعه الضرر البين الإمام والخطيب ، فيعطيان المشروط لهما أما المباشر والشاد إذا عملا زمن العمارة فإنما يستحقان بقدر أجرة عملهما لا المشروط ا هـ لكن الظاهر أن قوله : وأفاد في البحر سبق قلم ، وصوابه وأفاد في الفتح لأن ما ذكره هو مفاد كلام الفتح كما علمته ، وأما ما في البحر فإنه خلاف هذا لأنه بعد ما ذكر كلام الفتح قال : فظاهره أن من عمل من المستحقين زمن العمارة يأخذ قدر أجرته ، لكن إذا كان مما لا يمكن ترك عمله إلا بضرر بين كالإمام والخطيب ، ولا يراعى المعلوم المشروط زمن العمارة ، فعلى هذا إذا عمل المباشر والشاد زمن العمارة يعطيان بقدر أجرة عملهما فقط وأما ما ليس في قطعه ضرر بين فإنه لا يعطى شيئا أصلا زمن العمارة . ا هـ .

وأنت خبير بأن ما نسبه إلى ظاهر الفتح خلاف الظاهر ، فإن ظاهر الفتح أن من لا يقطع يعطى المشروط لا الأجر ومن يقطع وهو من ليس في قطعه ضرر بين لا يعطى ، ثم ذكر أن الناظر ممن يقطع وأنه إذا عمل فله قدر أجرته : أي لا ما شرطه له الواقف فأفاد أن من يقطع كالناظر لا يعطى شيئا إلا إذا عمل وهذا كله كما ترى مخالف لما فهمه في البحر من أن من لا يقطع كالإمام له الأجر إذا عمل ، ومن يقطع لا يعطى شيئا أصلا أي لا أجرا ولا مشروطا وإن عمل وفيه أيضا أنه جعل للشاد والمباشر أجرة إذا عملا ، ومقتضاه أنهما من الشعائر التي لا تقطع ، وهو خلاف ما صرح به نفسه بعد نحو ثلاث أوراق نعم هو موافق لما بحثه في الأشباه من أنه ينبغي أن يلحق بهؤلاء يعني الإمام والمدرس والخطيب والمؤذن والميقاتي والناظر ; وكذا الشاد والكاتب والجابي زمن العمارة ا هـ لكن رد في النهر ما في الأشباه بأنه مخالف لصريح كلامهم كما مر ، بل الناظر وغيره إذا عمل زمن العمارة ، كان له أجر مثله كما جرى عليه في البحر وهو الحق ا هـ ومراده بما جرى عليه في البحر ، ما نقله عن الفتح ومراده بقوله : بل الناظر وغيره : أي من ليس في قطعه ضرر بين ووجه مخالفته للمنقول . أن هؤلاء لهم أجرة عملهم إذا عملوا زمن العمارة فإلحاقهم بالإمام وأخويه تقتضي أن لهم الشروط ، وليس كذلك كما دل عليه كلام الفتح وبه ظهر خلل ما في البحر وصحة ما ذكره الشارح تبعا للنهر خلافا لمن نسبهما إلى عدم الفهم فافهم .

نعم في عبارة البحر والنهر خلل من وجه آخر وهو أن كلامهما مبني أن المراد بالعمل في عبارة الفتح عمله في وظيفة ، وهو بعيد لأنه إذا عمل في وظيفته ، وأعطي قدر أجرته لم يقطع بل صدق عليه أنه قدم كغيره ممن في قطعه ضرر كالإمام ، وهذا خلاف ما مر من تقديم الأهم فالأهم . وأيضا من لم يعمل عمله المشروط لا يعطى شيئا أصلا ولو كان في قطعه ضرر ، فلا فرق بينه وبين [ ص: 370 ] غيره فيتعين حمل العمل في كلام الفتح على العمل في التعمير وعبارة الفتح صريحة في ذلك فإنه قال : إلا أن يعمل كالفاعل والبناء ونحوهما فيأخذ قدر أجرته ا هـ لكن هو مقيد بما إذا عمل بأمر القاضي لما في جامع الفصولين لو عمل المتولي في الوقف بأجر جاز ويفتى بعدمه إذ لا يصلح مؤجرا ومستأجرا وصح لو أمره الحاكم أن يعمل فيه . ا هـ .

وعليه كما في القنية : إذا عمل القيم في عمارة المسجد والوقف كعمل الأجير لا يستحق أجرا محمول على ما إذا كان بلا أمر الحاكم والظاهر أن الناظر غير قيد ، بل كل من عمل في التعمير من المستحقين له أجرة عمله وإنما نصوا على الناظر ; لأنه لا يصلح مؤجرا ومستأجرا أي مستأجرا لنفسه ، فإذا كان بأمر الحاكم كان الحاكم هو المستأجر له ، بخلاف غيره من المستحقين فإن المستأجر له هو الناظر ، فلا شبه في استحقاقه الأجرة كالأجنبي .

وحيث حملنا كلام الفتح على ما قلنا صار حاصله : أن من في قطعه ضرر بين لا يقطع زمن التعمير أي بل يبقى على ما شرط له الواقف وأما غيره فيقطع ولا يعطى شيئا أصلا وإن عمل في وظيفته . نعم يعطى لكل أجرة عمله إذا عمل في العمارة ولو هو الناظر لكن لو بأمر الحاكم وبهذا التقرير سقط ما قدمناه عن النهر في الرد على الأشباه إذ لا أجرة على العمل في غير التعمير ، ثم الظاهر أن المراد بالمشروط ما يكفيه لأن المشروط له من الوقف لو كان دون كفايته وكان لا يقوم بعمله إلا بها يزاد عليه ويؤيده ما سيأتي في فروع الفصل الأول أن للقاضي الزيادة على معلوم الإمام إذا كان لا يكفيه ، وكذا الخطيب .

قلت : بل الظاهر أن كل من في قطعه ضرر بين فهو كذلك لأنه في الأجير في التعمير ، وأما لو كان المشروط له أكثر من قدر الكفاية فلا يعطى إلا الكفاية في زمن التعمير لأنه لا ضرورة إلى دفع الزائد المؤدي إلى قطع غيره فيصرف الزائد إلى من يليه من المستحقين ، وعلى هذا يحصل التوفيق بين ما مر عن الحاوي من أنهم يعطون بقدر كفايتهم ، وبين ما استفيد من الفتح من أنهم يعطون المشروط . والحاصل مما تقرر وتحرر أنه يبدأ بالتعمير الضروري حتى لو استغرق جميع الغلة صرفت كلها إليه ولا يعطى أحد ولو إماما أو مؤذنا ، فإن فضل عن التعمير شيء يعطى ما كان أقرب إليه مما في قطعه ضرر بين وكذا لو كان التعمير غير ضروري بأن كان لا يؤدي تركه إلى خراب العين ، لو أخر إلى غلة السنة القابلة فيقدم الأهم فالأهم ثم من لا يقطع يعطى المشروط له إذا كان قدر كفايته وإلا يزاد أو ينقص ، ومن لم يكن في قطعه ضرر بين قدمت العمارة عليه وإن أمكن تأخيرها إلى غلة العام القابل كما هو مقتضى إطلاق المتون ولا يعطى شيئا أصلا وإن باشر وظيفته ما دام الوقف محتاجا إلى التعمير وكل من عمل من المستحقين في العمارة فله أجرة عمله لا المشروط ولا قدر الكفاية فهذا غاية ما ظهر لي في تحرير هذا المقام الذي زلت فيه أقدام الأفهام .




الخدمات العلمية