الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            الثاني وأما شرط الفتوى فقال ابن سلمون في وثائقه : سئل ابن رشد في الفتوى وصفة المفتي فقال : الذي أقول به في ذلك إن الجماعة التي تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تنقسم على ثلاث طوائف ، طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا بغير دليل فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون التفقه في معانيها بتمييز الصحيح منها والسقيم ، وطائفة اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها من صحة أصوله التي بناه عليها فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه وتفقهت في معانيها فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول ، وطائفة اعتقدت صحة مذهب بما بان لها أيضا من صحة أصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والخاص من العام عالمة بالسنن الواردة في الأحكام مميزة بين صحيحها من معلولها عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه عالمة من علم اللسان بما يفهم به معاني الكلام عالمة بوضع الأدلة في مواضعها ، فأما الطائفة الأولى فلا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول مالك وقول أحد من أصحابه إذ لا علم عندها بصحة شيء من ذلك إذ لا يصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم ويصح لها في خاصتها إن لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أو تقلد مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم وإن لم يعلم من نزلت به نازلة من يقلده فيها من قول مالك [ ص: 95 ] وأصحابه فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول مالك في نازلته ويقلد مالكا في الأخذ بقوله فيها وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها .

                                                                                                                            وإن كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه في ذلك حكم العامي إذا استفتى العلماء في نازلته فاختلفوا عليه فيها وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أنه يأخذ بما شاء من ذلك والثاني أنه يجتهد في ذلك فيأخذ في ذلك بقول أعلمهم والثالث أنه يأخذ بأغلظ الأقوال وأما الطائفة الثانية فيصلح لها إذا استفتيت أن تفتي بما علمته من قول مالك وقول غيره من أصحابه إذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها في خاصتها الأخذ بقوله إذا بانت لها صحته ولا يجوز لها أن تفتي بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصا من قول مالك أو قول غيره من أصحابه وإن كانت قد بانت لها صحته إذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد الذي يصح لها بها قياس الفروع على الأصول وأما الطائفة الثالثة فهي التي يصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة ، وعلى ما قيس عليها إن قدم القياس عليها ، ومن القياس جلي وخفي ; لأن المعنى الذي يجمع بين الأصل والفرع قد يعلم قطعا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل وقد يعلم بالاستدلال ، فلا يوجب إلا غلبة الظن ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد القياس الجلي وهذا كله يتفاوت العلماء في التحقيق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا وتفترق أحوالهم أيضا في جودة الفهم لذلك وجودة الذهن فيه افتراقا بعيدا إذ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ وإنما هو نور يضعه الله حيث يشاء فمن اعتقد في نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما آتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحفوظ المعلوم جاز له إن استفتي أن يفتي

                                                                                                                            وإذا اعتقد الناس فيه ذلك جاز له أن يفتي فمن الحق للرجل أن لا يفتي حتى يرى نفسه أهلا لذلك ويراه الناس أهلا له على ما حكى مالك عن أن ابن هرمز أشار بذلك على من استشاره السلطان فاستشاره في ذلك وقد أتى ما ذكرناه على ما سألت عنه من بيان صفات المفتي التي ينبغي أن يكون عليها في هذا العصر إذ لا تختلف صفات المفتي التي تلزم أن يكون عليها باختلاف الأعصار .

                                                                                                                            وأما السؤال عن بيان ما يلزم في مذهب مالك لمن أراد في هذا الوقت أن يكون مفتيا على مذهب مالك فإنه سؤال فاسد إذ ليس أحد بالخيار في أن يفتي على مذهب مالك ولا على مذهب غيره من العلماء بل يلزمه ذلك إذا قام عنده الدليل على صحته ولا يصح له إن لم يقم عنده الدليل على صحته والسؤال عن الحكم في أمر القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي وليس في نظره من نال درجة الفتوى ولا هو في نفسه أهل لذلك قد مضى القول عليه فيما وصفناه من حال الطائفة التي عرفت صحة مذهب مالك ولم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول وذكر بقية كلامه المتقدم في الفرع الذي قبل هذا .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة : وأما شرط الفتوى ففيها لا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا للفتوى وقال سحنون : الناس هنا العلماء ، قال ابن هرمز : ويرى هو نفسه أهلا لذلك قال القرافي إثر هذا الكلام : وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا ; لأن الحنك وهو اللثام تحت الحنك من شعار العلماء حتى إن مالكا سئل عن الصلاة بغير حنك فقال : لا بأس بذلك وهذه إشارة إلى تأكيد التحنيك وهذا شأن الفتيا في الزمن المتقدم وأما اليوم فقد خرق هذا السياج وهان على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم لا أدري فلا جرم آلى الحال بالناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال والمتجرئين على [ ص: 96 ] دين الله تعالى ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وقع هذا في رسم الشجرة من جامع العتبية لابن هرمز فيما ذكره مالك عنه وليس فيه ويرى نفسه أهلا لذلك فقال ابن رشد زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية من المدونة ويرى نفسه أهلا لذلك وهي زيادة حسنة ; لأنه أعرف بنفسه وذلك أن يعلم نفسه أنه كملت له آلات الاجتهاد وذلك علمه بالقرآن وناسخه ومنسوخه ومفصله من مجمله وعامه من خاصه وبالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها عالما بأقوال العلماء وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه عالما بوجوه القياس ووضع الأدلة مواضعها وعنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام وفي نوازل ابن رشد أنه سئل عمن قرأ الكتب المستعملة مثل المدونة والعتبية دون رواية أو الكتب المتأخرة التي لا توجد فيها رواية هل يستفتي .

                                                                                                                            وإن أفتى وقد قرأها دون رواية هل تجوز شهادته أم لا فأجاب من قرأ هذه الكتب وتفقه فيها على الشيوخ وفهم معناها وأصول مسائلها من الكتاب والسنة والإجماع وذكر ما نقلناه عنه في البيان في كلامه السابق ثم قال : فهذا يجوز له أن يفتي فيما ينزل ولا نص فيه باجتهاده ، قال : ومن لم يلحق هذه الدرجة لم يصلح أن يستفتى في المجتهدات التي لا نص فيها ولا يجوز له أن يفتي في شيء منها إلا أن يعلم برواية عن عالم فيقلده فيما يخبر به وإن كان فيها اختلاف أخبر بالذي ترجح عنده إن كان ممن له فهم ومعرفة بالترجيح ( قلت ) وهذا حال كثير ممن أدركناه وأخبرنا عنهم أنهم كانوا يفتون ولا قراءة لهم في العربية فضلا عما سواها من أصول الفقه وقد ولي خطتي قضاء الأنكحة والجماعة بتونس من قال : ما فتحت كتابا في العربية على أحد ومثله ولي القضاء في أوائل هذا القرن ببجاية وقد رأيت بعض هؤلاء يقرءون التفسير وأخبرت أن بعضهم كان منعه قاضي وقته فلما مات أقرأه وأفتى ابن عبد السلام بوجوب منع من لم يكن له مشاركة في علم العربية من إقراء التفسير ثم كان في حضرته من يقرأه بل ولاه محل إقرائه وهو ممن لم يقرأ في العربية كتابا ، والله أعلم .

                                                                                                                            بحال ذلك كله وفي المقدمات ينبغي للقاضي أن يكون عالما بما لا بد منه من العربية واختلاف معاني العبارات لاختلاف المعاني باختلاف العبارات في الدعاوى والإقرار والشهادات وقال القرافي : ما حاصله يجوز لمن حفظ رواية المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها أن يفتي بمحفوظه منها وما ليس محفوظا له منها لا يجوز له تخريجه على ما هو محفوظ له منها إلا إن حصل علم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وشرائطه وموانعه وإلا حرم عليه التخريج ، قال : وكثير من الناس يقدمون على التخريج دون هذه الشرائط بل صار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا التخصيصات من منقول إمامه وذلك فسق ولعب وشرط التخريج على قول إمامه أن يكون القول المخرج عليه ليس مخالفا للإجماع ولا لنص ولا لقياس جلي ; لأن القياس عليه حينئذ معصية ، وقول إمامه ذلك غير معصية ; لأنه باجتهاد أخطأ فيه فلا يأثم وتحصيل حفظ القواعد الشرعية إنما هو بالمبالغة في تحصيل مسائل الفقه بأصولها ، وأصول الفقه لا تفيد ذلك ولذا ألفت هذا الكتاب المسمى بالقواعد قلت قوله ليس مخالفا للإجماع ، لا لنص .

                                                                                                                            أما الإجماع فمسلم وأما النص فليس كذلك لنص مالك في كتاب الجامع من العتبية وغيره على مخالفة نص الحديث الصحيح إذا كان العمل بخلافه ، انتهى . وكلام القرافي هذا في الفرق الثامن والتسعين ، وقول ابن عرفة في أول الكلام : وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها أن يفتي بمحفوظه ، عبارة القرافي فهذا يجوز له أن يفتي بجميع ما يحفظه وينقله من مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا ، انتهى . واختصر ابن عرفة كلامه فيه جدا ، قال القرافي في الفرق المذكور : وكل شيء أفتى به المجتهد فوقعت فتياه فيه على خلاف الأصل والقواعد والإجماع والنص والقياس الجلي [ ص: 97 ] السالم عن المعارض ، الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا حرام .

                                                                                                                            وإن كان الإمام المجتهد غير عاص فعلى أهل العصر تفقد مذاهبهم فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعرف هذا من مذهبه إلا إن عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعلة المعارض لذلك وذلك يعتمد تحصيل الفقه والتبحر في الفقه فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفقه والفتوى لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث لي على تصنيف هذا الكتاب لضبط تلك القواعد بحسب طاقتي وباعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتيا فتأمل ذلك فإنه أمر لازم ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يتوقفون في الفتيا توقفا شديدا ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر أن قول القرافي : وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها ، يعني غلب على ظنه أن هذه الرواية مطلقة وهذه مقيدة وأما القطع بأن هذه الرواية ليست مقيدة فبعيد ويكفي الآن في ذلك وجود المسألة في التوضيح أو في ابن عبد السلام ، قال ابن فرحون ، قال المازري في كتاب الأقضية : الذي يفتى به في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب مالك في كثير من رواياتهم فهذا لعدم النظار يقتصر على نقله عن المذهب ، انتهى .

                                                                                                                            وفي آخر خطبة البيان والتحصيل لابن رشد ، قال : إذا جمع الطالب المقدمات إلى هذا الكتاب يعني البيان والتحصيل حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول الفقه وعرف العلم من طريقه وأخذه من بابه وسبيله وأحكم رد الفرع إلى الأصل واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات وحصل في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية من كتابه ووعدهم فيه بترفيع الدرجات ، انتهى . وقد تقدم في أول المختصر عند قول المصنف مبينا لما به الفتوى في الكلام على الديباجة بعض هذه النصوص وشيء من هذا المعنى ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية