الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا قال القائل: إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل، قيل: معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول، وزوال الأزل ليس موقوفا على تجدد أمر من الأمور، فإن المتجدد هو من الحوادث، فتكون الحركة ممتنعة، ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور.

فإن قيل: المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك.

قيل: عدم الأزل ليس شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد، إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل، فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث، فإذا قيل "يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث" كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته، ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه. [ ص: 396 ]

يوضح هذا: أن القائل إذا قال: كل ما يسمى متجددا حادثا إما أن يكون ممكنا في الأزل وإما أن لا يكون، فإن كان ممكنا بطل القول بامتناعه في الأزل، وإن كان ممتنعا ثم صار ممكنا لزم انقلاب الشيء من كونه ممكنا إلى كونه ممتنعا من غير تجدد شيء أصلا، وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعا لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع، إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والامتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت، وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر، وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص، ولا مخصص، لزم: إما الامتناع في جميع الأوقات، وهو باطل بالحس والإجماع، فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب.

وعلى هذا التقدير: فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال: إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة [ ص: 397 ] ثبت المطلوب، وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته، وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع، وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره، وحينئذ فالكلام في ذلك المانع كالكلام في غيره، ويلزم التسلسل، ثم يقال: تسلسل الموانع إن كان ممكنا ثبت جواز التسلسل، وأمكن القول بتسلسل الحوادث، وإن كان تسلسل الموانع ممتنعا بطل كون الامتناع متسلسلا، وقد بطل كونه واجبا بنفسه أو بغيره، فلا يكون الامتناع ثابتا في الأزل، فيثبت نقيضه، وهو الإمكان.

وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال: مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعا في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممتنعا في الأزل ثبت إمكانه، فيكون مسمى الحركة ممكنا في الأزل، وإن كان ممتنعا في الأزل فامتناعه إما لنفسه، وإما لموجب واجب بنفسه، أو لازم للواجب، وحينئذ فلا يزول الامتناع، وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل، وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بني عليه امتناع تسلسل الحوادث.

وسر هذا الدليل: أن الأزل ليس هو شيئا معينا محدودا، ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر، وهلم جرا. وهذا هو التسلسل، فيلزم من تحقق الأزل التسلسل. [ ص: 398 ]

لكن قد يقال: تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات، بل تسلسل العدميات ممكن، بخلاف تسلسل الوجوديات، ويكون حدوث الحوادث موقوفا على تسلسل العدميات، فيقال: إن لم يكن تسلسل العدميات أمرا محققا فلا حقيقة له، فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفا على ما لا حقيقة له.

وهذا باطل، وإن كان تسلسلها أمرا محققا فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز، وأنه أزلي، مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي، وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث، فهم بين أمرين: إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح، وإما أن يقولون بجواز التسلسل، وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم: إنه لا بد للحوادث من ابتداء، فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل، فكذلك في قولهم "إنه لا بد لإمكانها من ابتداء" يلزمهم إما هذا وإما هذا، والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع، وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع، لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحا، بل يقولون: يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان، ويحصل الرجحان بدون المرجح التام، بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل [ ص: 399 ] يبطل القول بامتناع التسلسل. فثبت بطلان قولهم على التقديرين.

التالي السابق


الخدمات العلمية