الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الفرع السادس ] ( و ) الفرع السادس ، وأخر هو والذي بعده ; لأنهما من الزيادات ( ما أتى عن صاحب ) من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موقوفا عليه ، لكنه مما لا مجال للاجتهاد فيه .

( بحيث لا يقال رأيا ) أي : من قبل الرأي ( حكمه الرفع ) تحسينا للظن بالصحابي ( على ما قال ) الإمام فخر الدين الرازي في المحصول ، نحو : من أتى ساحرا أو عرافا ، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - . المروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ولم ينفرد بذلك ( فالحاكم الرفع لهذا ) أيضا ( أثبتا ) حيث ترجم عليه في " علومه " معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأدخل معه في الترجمة : " كنا نفعل " ، و " كان يقال " ونحو ذلك مما مضى . بل حكى ابن عبد البر إجماعهم على أن قول أبي هريرة - وقد رأى رجلا خارجا من المسجد بعد الأذان - : [ ص: 162 ] أما هذا ، فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه مسند .

وأدخل في كتابه ( التقصي ) الموضوع لما في الموطأ من المرفوع ، عدة أحاديث ذكرها مالك في الموطأ موقوفة ، منها حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف .

وصرح في التمهيد بأنه لا يقال من جهة الرأي . وقال أبو عمرو الداني : قد يحكي الصحابي قولا يوقفه على نفسه ، فيخرجه أهل الحديث في المسند ; لامتناع أن يكون الصحابي قاله إلا بتوقيف ; كحديث أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه قال : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، فمثل هذا لا يقال بالرأي ، فيكون من جملة المسند .

وقال ابن العربي في " القبس " : إذا قال الصحابي قولا لا يقتضيه القياس ، فإنه محمول على المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه كالمسند . انتهى .

وهو الظاهر من احتجاج الشافعي رحمه الله في الجديد بقول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين . حيث أعطاه حكم المرفوع ; لكونه مما لا مجال للرأي فيه ، و إلا فقد نص على أن قول الصحابي ليس بحجة .

[ ص: 163 ] ومن أمثلة ذلك أيضا قول أبي هريرة : ومن لم يجب الدعوة ، فقد عصى الله ورسوله وقول عمار بن ياسر : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم .

لكن قد جوز شيخنا في ذلك وما يشبهه احتمال إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد ، بل يمكن أن يقال ذلك أيضا في الحديث الأول ; أما الساحر : فلقوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ البقرة : 102 ] .

وأما العراف ، وهو المنجم : فلقوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] .

قال شيخنا : ( لكن الأول - يعني الحكم لها بالرفع - أظهر ) . انتهى .

على أن حديث ابن مسعود - وإن جاء من أوجه عنه بصورة الموقوف - فقد جاء من بعضها بالتصريح بالرفع ، ومن الأدلة للأظهر أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حدث كعب الأحبار بحديث : " فقدت أمة من بني إسرائيل ، لا يدرى ما فعلت " ، فقال له كعب : ( أأنت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله ؟ ) فقال له أبو هريرة : نعم ، وتكرر ذلك مرارا ، فقال له أبو هريرة : أفأقرأ التوراة ؟ ! أخرجه البخاري في : " الجن " من بدء الخلق من صحيحه .

قال شيخنا : فيه أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب ، وأن الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه ، يكون للحديث حكم الرفع . انتهى .

وهذا يقتضي تقييد الحكم بالرفع ; لصدوره عمن لم يأخذ عن أهل الكتاب ، [ ص: 164 ] وقد صرح بذلك ; فقال في مسألة تفسير الصحابي الماضية ما نصه : إلا أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان الصحابي المفسر ممن عرف بالنظر في الإسرائيليات ; كعبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب .

وكعبد الله بن عمرو بن العاص ; فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب ; فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة ، حتى كان بعض أصحابه ربما قال له : حدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تحدثنا عن الصحيفة .

فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور النقلية الرفع ; لقوة الاحتمال ، ولم يتعرض لتجويزه السابق ; لكون الأظهر - كما قال - خلافه .

وسبقه شيخه الشارح لهذا التقييد ; فإنه بعد أن نقل أن كثيرا ما يشنع ابن حزم في المحلى على القائلين بالرفع ، يعني في أصل المسألة ، قال ما ملخصه : ولإنكاره وجه ، فإنه - وإن كان مما لا مجال للرأي فيه - يحتمل أن يكون ذلك الصحابي سمعه من أهل الكتاب ; ككعب الأحبار حين سمع منه العبادلة وغيرهم من الصحابة ، مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج .

قلت : وفي ذلك نظر ، فإنه يبعد أن الصحابي المتصف بالأخذ عن أهل الكتاب يسوغ حكاية شيء من الأحكام الشرعية التي لا مجال للرأي فيها مستندا لذلك ، من غير عزو مع [ آية ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب ) [ العنكبوت : 51 ] التي جنح البخاري إلى تبيين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس منا من لم يتغن بالقرآن بها و ] علمه بما وقع فيه من التبديل والتحريف ; بحيث سمى ابن عمرو بن العاص صحيفته النبوية الصادقة ، احترازا عن [ ص: 165 ] الصحيفة اليرموكية .

وقال كعب الأحبار - حين سأل أبا مسلم الخولاني : كيف تجد قومك لك ؟ قال : مكرمين - ما نصه : ما صدقتني التوراة ; لأن فيها : إذا ما كان رجل حكيم في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه .

وكونه في مقام تبيين الشريعة المحمدية كما قيل به في " أمرنا ونهينا وكنا نفعل " ونحو ذلك ، فحاشاهم من ذلك ، خصوصا وقد منع عمر - رضي الله عنه - كعبا من الحديث بذلك ، قائلا له : لتتركنه ، أو لألحقنك بأرض القردة .

وأصرح منه منع ابن عباس له ولو وافق كتابنا ، وقال : إنه لا حاجة بنا إلى ذلك ، وكذا نهى عن مثله ابن مسعود وغيره من الصحابة ، بل امتنعت عائشة من قبول هدية رجل ، معللة المنع بكونه ينعت الكتب الأول .

[ قال أبو بكر بن عياش : قلت للأعمش : ما لهم ينفون تفسير مجاهد ؟ قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب ] ولا ينافيه : حدثوا عن بني إسرائيل ; فهو خاص بما وقع فيهم من الحوادث والأخبار المحكية عنهم ; لما في ذلك من العبرة والعظة ، بدليل قوله [ ص: 166 ] تلوه في رواية : فإنه كانت فيهم الأعاجيب .

وما أحسن قول بعض أئمتنا : هذا دال على سماعه للفرجة لا للحجة ، كما بسطت ذلك كله واضحا في كتابي " الأصل الأصيل في الإجماع على تحريم النقل من التوراة والإنجيل " .

إذ علم هذا ، فقد ألحق ابن العربي بالصحابة في ذلك ما يجيء عن التابعين أيضا ، مما لا مجال للاجتهاد فيه ; فنص على أنه يكون في حكم المرفوع ، وادعى أنه مذهب مالك ، قال : ولهذا أدخل عن سعيد بن المسيب : صلاة الملائكة خلف المصلي . انتهى .

وقد يكون ابن المسيب اختص بذلك عن التابعين ، كما اختص دونهم بالحكم في قوله : " من السنة وأمرنا " ، والاحتجاج بمراسيله كما تقرر في أماكنه ، ولكن الظاهر أن مذهب مالك هنا التعميم ، وبهذا الحكم أجيب من اعترض في إدخال المقطوع والموقوف في علوم الحديث ، كما أشرت إليه في المقطوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية