الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر ، وهدى الله المؤمن ، ضرب لهم مثلا بالبصير والأعمى ، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح ، والكافر أعمى ، وفي تفسير الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر : الأعمى والبصير ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات ؟ فنقول :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول مثل المؤمن والكافر ، فالمؤمن بصير والكافر أعمى ، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ، ولكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء ، فذكر للإيمان والكفر مثلا ، وقال : الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور ، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد ، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور ، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب ، ثم قال تعالى : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) مثلا آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى : حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما ، والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ، ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) وعطف الظلمات والنور والظل والحرور ، ثم أعاد الفعل ، وقال : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) كأنه جعل هذا مقابلا لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء والأموات ، ولم يكرر بين الأعمى والبصير ، وذلك لأن التكرير للتأكيد ، والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة ، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك ، أما الأعمى والبصير ليس كذلك ، بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا وهو بعينه يصير أعمى ، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف ، والظل والحرور المنافاة بينهما ذاتية ؛ لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد ، فلما كانت المنافاة هناك أتم ، أكد بالتكرار ، وأما الأحياء والأموات ، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة ، فيصير ميتا [ ص: 16 ] محلا للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء ، ولا كذلك الحي والميت ، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور ، وأخره في مثلين وهو البصر والنور ، وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآي ، وهو ضعيف ؛ لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع ، فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى ، وأما القرآن فحكمة بالغة ؛ والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح ، فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى ، فنقول : الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة ، فكانوا كالعمي وطريقهم كالظلمة ، ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق ، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور ، فقال : وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ، ومن اهتدى بعده إلى الإيمان ، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم ، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات : سبقت رحمتي غضبي ، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه ، فقال : ( وما يستوي الأحياء ) أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ولم ينتفعوا بها ، وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين ، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : فإن قلت : قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد ، وكذلك الظل بالحرور ، وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع ، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر ، فهل تعرف فيه حكمة ؟ قلت : نعم بفضل الله وهدايته ، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور ، فلأنه قابل الجنس بالجنس ، ولم يذكر الأفراد ؛ لأن في العميان وأولي الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع ، والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان ، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه ، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير ، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به ، فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى ، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد ، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد ، والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب ، وبعضهم النار ، وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة ، وإلى غير ذلك ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين ، فقال : الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : ( وجعل الظلمات والنور ) ( الأنعام : 1 ) السبب في توحيد النور وجمع الظلمات ، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ، ومحل قابل للاستنارة ، وعدم الحائل بين النور والمستنير . مثاله الشمس إذا طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة ، وهو الذي يمسك الشعاع ، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع [ ص: 17 ] ويدخل بيتا آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا والأول مظلما ، وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء ، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت ، وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية