الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التنزيل عند الإمام ابن تيمية

الأستاذة / جميلة حسن تلوت

المطلب التاسع: أثر الاختلاف في تحقيق المناط في اختلاف الفقهاء:

سبق الذكر أن الإمام ابن تيمية يعتبر الاجتهاد التحقيقي من الاجتهادات المتفق عليها بين عقلاء المسلمين، ولا خلاف في اعتباره، لكن الخلاف يكمن في الإعمال حيث يختلف فيه الفقهاء؛ لأن الاجتهاد بتحقيق المناط هو اجتهاد بالرأي أصالة، والرأي بشري، والاجتهادات البشرية تتسم بالنسبية لاختلاف الملكات العقلية والأنظار الفردية، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: "الرأي كثيرا ما يكون في تحقيق المناط الذي لا خلاف بين الناس في استعمال الرأي والقياس فيه، فإن الله أمر بالعدل في الحكم، والعدل قد يعرف بالرأي وقد يعرف بالنص" [1] .

وذكر الإمام أن من بين الأسباب المؤدية للاختلاف بين العلماء اختلاف آراء الناس وأهـوائهم، يقول: "وهذه القاعدة معروفة عند [ ص: 102 ] العلماء، لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك، ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملـة، ولكن من له هداية من الله لا يكاد يخفى عليه المقصود في غالب الأمر، وتسمي العلماء مثل هذه الأصول تحقيق المناط، وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشاهد ويوجبون النفقة بالمعروف ونحو ذلك، ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط هل هو شرط في العـدالة [2] ، ويبقى الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل، فإنه قد يكون متفقا عليه، وقـد يكون مختلفا فيه لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال" [3] .

ومن الأسباب التي ذكرها الإمام ابن تيمية المسببة لاختلاف الفقهاء الناتج عن اختلافهم في تحقيق المناط أن تكون المعـلومة عند أحـدهم ظنية أو مجهـولة وتكون عند غـيره قطعية أو معلومة، يقول الإمام ابن تيمية: "لا ريب أنه قد يكون عند أحدهم - المجتهدون- ما هو مظنون بل مجهول وهو معلوم لدى الآخر، إما موافقا له وإما مخالفا فيها أكثر المسائل الفقهية التي لا يعرف حكمها كثير من الأئمة، أو يتكلم فيها بنوع من الظن مصيبا [ ص: 103 ] أو مخطئا وتكون معلومة لغيره بأدلة قطعية عنده وعند من علم كعلمه: ... تارة بفهم النصوص ومعرفة دلالتها... وتارة بتحقيق المناط، وهذا يعود إلى عود فهم النص، بأن يعرف ثبوت المناط الذي لا شك فيه في المعين، وغيره لا يشك في ذلك، كما يقطع الرجل في القصاص، وإبدال المتلفات بأن هذا أقرب إلى المثل والعدل من كذا، وغيره يشك فيه أو يعتقد خلافه، وأمثال ذلك" [4] ، فجعل الإمام الشك في المناط مؤديا إلى الاختلاف في تحقيقه وعليه في اختلاف الفقهاء.

ومن الأمثلة التي أعطاها الإمام ابن تيمية: تنازع الفقهاء في شرب الخمر للإرواء من العطش يقول: "والفقهاء إنما تنازعوا في الخمر: هل تشرب للعطش، لتنازعهم في كونها تذهب العطش، والناهي قال: لا تزيد الشارب إلا عطشا، فلا يحصل به بقاء المهجة. والمبيح يقول: بل قد ترطب رطوبة تبقى معها المهجة، وحينئـذ فأي المأخذين كان هو الواقع، كان قول صاحبه أصوب" [5] .

فالخـلاف هنا خلاف في المناط فحيث تحقق منـاط الإرواء جاز شرب الخـمر، لذلك قال الإمـام "فأي المأخـذين كان هو الواقـع"، أي حيثما تحقق المناط. [ ص: 104 ]

ومن الأمثلة كذلك اشتراط العدالة في الشهادة، وإيجاب النفقة بالمعروف، ونحو ذلك، ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط: هل هو شرط في العدالة؟ ويختلفون في صفة الإنفاق بالمعروف [6] .

ومثال ذلك أيضا الاختلاف في قوله تعالى: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) (التوبة:60) فيبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين في القرآن أم لا ؟ [7]

ومن أمثلة تحقيق المناط، مثال الحشيشة فإن مناط تحريم الخمر وهو الإسكار متحقق فيها، فلما تحقق فيها المناط ألحق حكمها بحكم الخمر، يقول الإمام ابن تيمية:

"فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون: من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسـدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيـلات عن إضرار الناس، وهذه رشـوة الشيـطان يرشو بـها [ ص: 105 ] المبطلين ليطيعوه فيها، بمنـزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولايبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله... وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصارى... ففيها من المفـاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي في التحريم أولى من الخمر، لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر... هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ) وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسـد ما حرمت الخمر لأجلها" [8] .

ففي هذا المثال قام الإمام بتحقيق المناط وكذا النظر إلى المآل عبر آلية الموازنة والترجيح. [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية