الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين

المعنى: "قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله...؟"؛ والدعاء يعم العبادة وغيرها؛ لأن من جعل شيئا موضع دعائه؛ فإياه يعبد؛ وعليه يتكل.

ما لا ينفعنا ولا يضرنا ؛ يعني الأصنام؛ إذ هي جمادات؛ حجارة؛ وخشب؛ ونحوه؛ وضرر الأصنام في [ ص: 390 ] الدين لا يفهمه الكفار؛ فلذلك قال: "ولا يضرنا"؛ إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنيوية.

و نرد على أعقابنا ؛ تشبيه؛ وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدما - وهي المشية الجيدة -؛ فيرد يمشي القهقرى - وهي المشية الدنية -؛ فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر؛ ووقعت في هذه الآية؛ في تمثيل الراجع من الهدى إلى عبادة الأصنام؛ و"هدانا"؛ بمعنى: أرشدنا؛ قال الطبري وغيره: الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا؛ فخاب أمله.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول قلق.

وقوله تعالى كالذي استهوته الشياطين ؛ الآية: الكاف في موضع نصب؛ نعت لمصدر محذوف؛ تقديره: "ردا كرد الذي..."؛ و"استهوته": "استفعلته"؛ بمعنى: "استدعت هواه؛ وأمالته"؛ قال أبو عبيدة : ويحتمل هويه؛ وهو جده؛ وركوب رأسه في النزوع إليهم؛ و"الهوى" - من "هوى؛ يهوي" - يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل؛ ومنه قول الشاعر:


هوى ابني من ذرى شرف ... فزلت رجله ويده



وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى: "ألقته الشياطين في هوة"؛ وقد ذهب إليه أبو علي ؛ وقال: هو بمعنى: "أهوى"؛ كما أن "استزل"؛ بمعنى: "أزل".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والتحرير أن العرب تقول: "هوى"؛ و"أهواه غيره"؛ و"استهواه"؛ بمعنى: "طلب منه أن يهوي هو"؛ أو: "طلب منه أن يهوي شيئا"؛ ويستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس؛ في النزوع إلى الشيء؛ ومنه قوله تعالى فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ؛ ومنه قول شاعر الجن:


تهوي إلى مكة تبغي الهدى ...     ما مؤمن الجن كأنجاسها



[ ص: 391 ] وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية.

وقرأ الجمهور من الناس: "استهوته الشياطين"؛ وقرأ الحسن: "استهوته الشياطون"؛ وقال بعض الناس: هو لحن؛ وليس كذلك؛ بل هو شاذ قبيح؛ وإنما هو محمول على قولهم: "سنون"؛ و"أرضون"؛ إلا أن هذه في جمع مسلم ؛ و"شياطون"؛ في جمع مكسر؛ فهذا موضع الشذوذ؛ وقرأ حمزة : "استهواه الشياطين"؛ وأمال "استهواه"؛ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ؛ والأعمش ؛ وطلحة : "استهويه الشيطان"؛ بالياء؛ وإفراد "الشيطان"؛ وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود .

وقوله: "في الأرض"؛ يحكم بأن "استهوته"؛ إنما هو بمعنى: "استدعت هويه؛ الذي هو الجد في النزوع"؛ و"حيران"؛ في موضع الحال؛ ومؤنثه "حيرى"؛ فهو لا ينصرف في معرفة؛ ولا نكرة؛ ومعناه: "ضالا؛ متحيرا"؛ وهو حال من الضمير في "استهوته"؛ والعامل فيه: "استهوته"؛ ويجوز أن يكون من "كالذي"؛ والعامل فيه المقدر بعد الكاف؛ وقوله: "استهوته"؛ يقتضي أنه كان على طريق؛ فاستدعته.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فسياق هذا المثل كأنه قال: "أيصلح أن يكون بعد الهدى نعبد الأصنام؛ فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب؛ فيكون كرجل على طريق واضح؛ فاستهوته عنه الشياطين؛ فخرج عنه إلى دعوتهم؛ فبقي حائرا؟"؛ وقوله: له أصحاب ؛ يحتمل أن يريد: "له أصحاب على الطريق الذي خرج منه"؛ فيشبه بالأصحاب - على هذا - المؤمنون؛ الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى؛ وهذا تأويل مجاهد ؛ وابن عباس ؛ ويحتمل أن يريد: "له أصحاب؛ أي من الشياطين الدعاة؛ أو لا يدعونه إلى الهدى؛ بزعمهم؛ وإنما يوهمونه"؛ فيشبه بالأصحاب - على هذا - الكفرة؛ الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده؛ وروي هذا التأويل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا.

و"ائتنا"؛ من "الإتيان"؛ بمعنى: "المجيء"؛ وفي مصحف عبد الله : "إلى الهدى بينا"؛ [ ص: 392 ] وهذه تؤيد تأويل من تأول "الهدى"؛ حقيقة إخبار من الله - تبارك وتعالى -؛ وحكى مكي ؛ وغيره؛ أن المراد بـ "كالذي"؛ في هذه الآية؛ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ وبالأصحاب أبوه - رضي الله عنه -؛ وأمه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف؛ لأن في الصحيح أن عائشة - رضي الله عنها - لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى والذي قال لوالديه أف لكما ؛ نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه -؛ قالت: "كذبوا والله؛ ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: حدثني أبي - رحمه الله - قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله ؛ المعروف بـ "النحوي"؛ المجاور بمكة يقول: من نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه؛ وينازعه بالقرآن؛ والحديث؛ فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: "ائتنا"؛ ومن ينازعهم بالجدل؛ ويحلق عليهم به؛ فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر؛ ليرد هذا الزائغ؛ فهو يخاف عليه أن يضل.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا انتزاع حسن جدا.

وقوله تعالى قل إن هدى الله ؛ الآية؛ من قال: "إن الأصحاب هم من الشياطين المستهزئين"؛ وتأول: إلى الهدى : "بزعمهم"؛ قال: "إن قوله: قل إن هدى الله هو الهدى ؛ رد عليهم في زعمهم؛ فليس ما زعموه صحيحا؛ وليس بهدي؛ بل هو نفسه كفر؛ وضلال؛ وإنما الهدى هدى الله تعالى ؛ وهو الإيمان"؛ ومن قال: "إن الأصحاب هم على الطريق المدعو إليها؛ وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم؛ وإن الهدى هو هدى على حقيقته"؛ يجيء على قوله: قل إن هدى الله ؛ بمعنى: "إن دعاء الأصحاب؛ وإن كان إلى هدى؛ فليس بنفس دعائهم تقع الهداية؛ وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه".

[ ص: 393 ] وأمرنا لنسلم ؛ اللام لام "كي"؛ ومعها "أن"؛ مقدرة؛ ويقدر مفعول لـ "أمرنا"؛ مضمر؛ تقديره: "وأمرنا بالإخلاص"؛ أو "بالإيمان"؛ ونحو هذا؛ فتقدير الجملة كلها: "وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم"؛ ومذهب سيبويه في هذا أن "لنسلم"؛ هو موضع المفعول؛ وأن قولك: "أمرت لأقوم"؛ و"أمرت أن أقوم"؛ يجريان سواء؛ ومثله قول الشاعر:


أردت لأنسى ذكرها [فكأنما] ...      ................



إلى غير ذلك من الأمثلة؛ و"لنسلم"؛ يعم الدين؛ والاستسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية