الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة : أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة . وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء . وحكي عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة وربما حكي ذلك عن بعض من يدعي السنة ويواليها .

                وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال : أما الملائكة المدبرون للسموات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم ; فهؤلاء أفضل من [ ص: 357 ] هؤلاء الملائكة .

                وأما الكروبيون الذين يرتفعون عن ذلك فلا أحد أفضل منهم وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم . واستثناؤه من عموم البشر إما تفضيلا على جميع أعيان الملائكة أو على المدبرين منهم أمر العالم . هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة . وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها فقلنا حينئذ بما قاله السلف فروى أبو يعلى الموصلي في " كتاب التفسير " المشهور له عن عبد الله بن سلام - وكان عالما بالكتاب الأول والكتاب الثاني - إذ كان كتابيا وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة ووصية معاذ عند موته وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغى العلم عندهم . قال : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم الحديث عنه . قلت : ولا جبرائيل ولا ميكائيل قال : يا ابن أخي أوتدري ما جبرائيل وميكائيل ؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل : الشمس والقمر ; وما خلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم

                . وروى عبد الله في " التفسير " وغيره عن معمر عن زيد بن أسلم أنه قال : { قالت الملائكة : يا ربنا جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون فاجعل لنا الآخرة . فقال : وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان } . [ ص: 358 ] وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم ولعن الممتنع عن السجود له وهذا تشريف وتكريم له .

                وقد قال بعض الأغبياء : إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة ; وليس في هذا تفضيل له عليهم ; كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله بل حرمة المؤمن عند الله أفضل من حرمتها وقالوا : السجود لغير الله محرم بل كفر . والجواب : أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه : - أحدها : قوله لآدم : ولم يقل : إلى آدم .

                وكل حرف له معنى ومن التمييز في اللسان أن يقال : سجدت له وسجدت إليه . كما قال تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } وقال { ولله يسجد من في السماوات والأرض } . وأجمع المسلمون على : أن السجود لغير الله محرم وأما الكعبة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ثم صلى إلى الكعبة وكان يصلي إلى عنزة ولا يقال لعنزة وإلى عمود شجرة ولا يقال لعمود ولا لشجرة ; والساجد للشيء يخضع له بقلبه ويخشع له بفؤاده ; وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهرا كما يولي وجهه إلى بعض [ ص: 359 ] النواحي إذا أمه كما قال : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }

                . والثاني : أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود أو يزعم أنه خير منه . فإن القبلة قد تكون أحجارا وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير وإلى رجل ولا يتوهم أنه مفضل بذلك فمن أي شيء فر الشيطان ؟ هذا هو العجب العجيب والثالث : أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات ; فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علما له ومن أفضل النعم عليه وجاءت إلى العالم بأن الله رفعه بها وامتن عليه ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات مع [ أن ] بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة ; والكعبة إنما وضعت له ولذريته ; أفيجعل من جسيم النعم عليه أو يشبه به في شيء نزر قليل جدا هذا ما لا يقوله عاقل .

                وأما قولهم : لا يجوز السجود لغير الله . فيقال لهم : إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة تنفي بعمومها جواز السجود لآدم وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له والعام لا يعارض ما قابله من الخاص . وثانيها : أن السجود لغير الله حرام علينا وعلى الملائكة .

                أما الأول فلا دليل وأما الثاني فما الحجة فيه ؟ [ ص: 360 ] ( وثالثها أنه حرام أمر الله به أو حرام لم يأمر به والثاني حق ولا شفاء فيه وأما الأول فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر الله تعالى به ؟ ( ورابعها : أبو يوسف وإخوته خروا له سجدا ويقال : كانت تحيتهم ; فكيف يقال : إن السجود حرام مطلقا ؟ وقد كانت البهائم تسجد للنبي صلى الله عليه وسلم والبهائم لا تعبد الله . فكيف يقال يلزم من السجود لشيء عبادته ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم . { ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } لعظم حقه عليها ومعلوم أنه لم يقل : لو كنت آمرا أحدا أن يعبد .

                ( وسابعها وفيه التفسير أن يقال : أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده وهو في غيره ممتنع باطل . وأما السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل إذ أحب أن نعظم من سجدنا له ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة فعله فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له . [ ص: 361 ] ولم يأت أن آدم سجد للملائكة بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين ولعل ذلك - والله أعلم بحقائق الأمور - لأنهم أشرف الأنواع وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين وهم أكفاء بعضهم لبعض فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود ومن سواهم فقد سجد لهم من الملائكة للأب الأقوم ومن البهائم للابن الأكرم .

                وأما قولهم : لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود فلغو من القول هذي به بعض من اعتزل الجماعة فإن نعم الله تعالى وأياديه وآلائه على عباده ليست بسبب منهم ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب فهو المنعم به ويشكرهم على نعمه ; وهو أيضا باطل على قاعدتهم لا حاجة لنا إلى بيانه هاهنا . وقوله : { وله يسجدون } فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر فالقصد منه - والله أعلم - الفضل بينهم وبين البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره فأخبرهم أن الملائكة لا تعبد غيره ثم هذا عام وتلك الآية خاصة فيستثنى آدم ثم يقال : السجود على ضربين سجود عبادة محضة وسجود تشريف . فأما الأول فلا يكون إلا لله وأما الثاني فلم قلت إنه كذلك ؟ والآية محمولة على الأول توفيقا بين الدلائل .

                وأما ( السؤال الثاني فروي عن بعض الأولين : أن الملائكة الذين [ ص: 362 ] سجدوا لآدم ملائكة في الأرض فقط ; لا ملائكة السموات . ومنهم من يقول : ملائكة السموات دون الكروبيين وانتحى ذلك بعض المتأخرين واستنكر سجود الأعليين من الملائكة لآدم مع عدم التفاتهم إلى ما سوى الله ورووا في ذلك : " إن من خلق الله خلق لا يدرون : أخلق آدم أم لا " ؟ ونزع بقوله : { أستكبرت أم كنت من العالين } والعالون هم ملائكة السماء وملائكة السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم فاعلم أن هذه المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها ; لا مسموع ولا معقول إلا خواطر وسوانح ووساوس مادتها من عرش إبليس يستفزهم بصوته [ ليرد عنهم ] النعمة التي حرص على ردها عن أبيهم قديما أو مقالة قد قالها من يقول الحق والباطل لكن معنا ما يوجب ردها من وجوه .

                أحدها : أنه خلاف ما عليه العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة وإذا كان لا بد من التقليد فتقليدهم أولى .

                وثانيها : أنه خلاف ظاهر الكتاب العزيز وخلاف نصه فإن الاسم المجموع المعرف بالألف واللام يوجب استيعاب الجنس قال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فسجود الملائكة يقتضي جميع الملائكة هذا مقتضى اللسان الذي نزل به القرآن فالعدول عن موجب القول العام إلى الخصوص لا بد له من دليل يصلح له وهو معدوم . [ ص: 363 ]

                وثالثها : أنه قال : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } فلو لم يكن الاسم الأول يقتضي الاستيعاب والاستغراق لكان توكيده بصيغة كل موجبة لذلك ومقتضية له ثم لو لم يفد تلك الإفادة لكان قوله أجمعون توكيدا وتحقيقا بعد توكيد وتحقيق ومن نازع في موجب الأسماء العامة فإنه لا ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم بل إنما يجاء بصيغة التوكيد قطعا لاحتمال الخصوص وأشباهه .

                وقد بلغني عن بعض السلف أنه قال : ما ابتدع قوم بدعة إلا في القرآن ما يردها ولكن لا يعلمون فلعل قوله : { كلهم أجمعون } جيء به لزعم زاعم يقول : إنما سجد له بعض الملائكة لا كلهم وكانت هذه الكلمة ردا لمقالة هؤلاء . ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيد فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم فإنه لا يثق بشيء يؤخذ منه يا ليت شعري لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد الله أن يخبرنا بذلك فأي كلمة أتم وأعم أم يأتي قول يقال : أليس هذا من أبين البيان ؟ ورابعها : أن هذه الكلمة تكررت في القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة { وأسجد لك ملائكته } وكذلك في محاجة موسى وآدم ومن الناس من يقول : إن القول العام إذا قرن به الخاص وجب أن يقرن به البيان فلا يجوز تأخيره عنه لئلا يقع السامع في اعتقاد الجهل ; ولم يقترن بشيء من هذه الكلمات دليل تخصيص فوجب القطع بالعموم . وقال آخرون - وهو الأصوب - : يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب [ ص: 364 ] لكن بعد البحث عن دليل التخصيص والله أعلم . فيجب القول بالعموم وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان .

                وأما إنكارهم لسجود الكروبيين فليس بشيء لأنهم سجدوا طاعة وعبادة لربهم وزاد قائل ذلك أنهم أفضل من آدم إذا ثبت أنهم لم يسجدوا والحكايات المرسلة لا تقيم حقا ولا تهدم باطلا ; وتفسيرهم { العالين } بالكروبيين قول في كتاب الله سبحانه وتعالى بلا علم ولا يعرف ذلك عن إمام متبع . ولا في اللفظ دليل عليه وقيل : { أستكبرت } أطلبت أن تكون كبيرا من هذا الوقت ؟ أم كنت عاليا قبل ذلك ؟ ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام الله بآرائنا والله أعلم بتفسيره .

                وهاهنا ( سؤال ثالث وهو : أن السجود له قد يكون الساجدون سجدوا له مع فضلهم عليه فإن الفاضل قد يخدم المفضول فنقول : اعلم أن منفعة الأعلى للأدنى غير مستنكرة ; فإن سيد القوم خادمهم فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل الناس وأنفع الناس للناس لكن منفعته في الحقيقة يعود إليه ثوابها وتمام التقرب إلى الله يحصل بنفع خلقه فهذا يصلح أن يورد على من احتج بتدبيرهم لنا ففضلهم علينا لكثرة منفعتهم لنا وأما نفس السجود فلا منفعة فيه للسجود له إلا مجرد تعظيم وتشريف وتكريم ولا يصلح ألبتة أن يكون من هو أفضل أسفل ممن دونه وتحته في الشرف والمحقق ; لا المتوهم ; فافهم هذا فإن تحته سرا . [ ص: 365 ]

                الدليل الثاني : قوله قصصا عن إبليس : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } ؟ . فإن هذا نص في تكريم آدم على إبليس إذ أمر بالسجود له .

                الدليل الثالث : إن الله تعالى خلق آدم بيده كما ذكر ذلك في الكتاب والسنة والملائكة لم يخلقهم بيده بل بكلمته وهذا يقوله جميع من يدعي الإسلام سنيهم ومبتدعهم - بل وعليه أهل الكتاب فإن الناس في يدي الله على ثلاثة أقوال : - أما أهل السنة فيقولون : يدا الله صفتان من صفات ذاته حكمها حكم جميع صفاته : من حياته وعلمه وقدرته وإرادته وكلامه . فيثبتون جميع صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها أنبياؤه وإن شاركت أسماء صفاته أسماء صفات غيره . كما أن له أسماء قد يسمى بها غيره مثل : رءوف رحيم عليم سميع بصير حليم صبور شكور قدير مؤمن علي عظيم كبير مع نفي المشابهة في الحقيقة والمماثلة كما في قوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } جمعت هذه الآية بين الإثبات والتنزيه ونسبة صفاته إليه كنسبة خلقه إليه والنسبة والإضافة تشابه النسبة والإضافة .

                ومن هذا الوجه جاء الاشتراك في أسمائه وأسماء صفاته كما شبهت الرؤية برؤية الشمس والقمر تشبيها للرؤية لا للمرئي كما ضرب مثله مع عباده المملوكين كمثل بعض خلقه مع مملوكيهم وله المثل الأعلى في السموات فتدبر [ ص: 366 ] هذا فإنه مجلاة شبهة ومصفاة كدر فجميع ما نسمعه وينسب إليه ويضاف : من الأسماء والصفات : هو كما يليق بالله ويصلح لذاته . والفريقان الآخران - أهل التشبيه والتمثيل - : منهم من يقول : يد كيدي - تعالى الله عن ذلك - وأهل النفي والتعطيل يقولون : اليدان هما : النعمتان والقدرتان والله أكبر كبيرا . وبكل حال اتفق هؤلاء كلهم على أن لآدم فضيلة ومزية ليست لغيره إذ خلقه بيده .

                ( الوجه الثالث : إن ذلك معدود في النعم التي أنعم الله بها على آدم حين قال له موسى : " خلقك الله بيده " . وكذلك يقال له : يوم القيامة ; وإنما ذكروا ذلك له في النعم التي خصه الله بها من بين المخلوقين دون الذي شورك فيها فهذا بيان واضح دليل على فضله على سائر الخلق كما ذكر زيد بن أسلم أن الله تعالى قال للملائكة : " { لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان } "

                . ( الدليل الرابع : ما احتج به بعض أصحابنا على تفضيل الأنبياء على الملائكة بقوله : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } وقوله : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } واسم { العالمين } يتناول الملائكة والجن والإنس وفيه نظر ؟ لأن أصناف العالمين قد يراد به [ ص: 367 ] جميع أصناف الخلق كما في قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } وقد يراد به الآدميون فقط على اختلاف أصنافهم كما في قوله تعالى { أتأتون الذكران من العالمين } { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } وهم كانوا لا يأتون البهائم ولا الجن . وقد يراد بالعالمين أهل زمن واحد كما في قوله : { اخترناهم على علم على العالمين } . فقوله : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران } الآية .

                تحتمل جميع أصناف الخلق ويحتمل أن المراد بنو آدم فقط . وللمحتج بها أن يقول : اسم العالمين عام لجميع أصناف المخلوقات التي بها يعلم الله وهي آيات له ودلالات عليه لا سيما أولو العلم منهم مثل : الملائكة فيجب إجراء الاسم على عمومه إلا إذا قام دليل يوجب الخصوص .

                وقد احتج أيضا بقوله : { ولقد كرمنا بني آدم } الآية . وهو دليل ضعيف بل هو بالضد كما قررناه . ( الدليل الخامس : قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } وفيها دليل على تفضيل الخليفة من وجهين : " أولهما " أن الخليفة يفضل على من هو خليفة عليه وقد كان في الأرض ملائكة وهذا غايته أن يفضل على من في الأرض من الملائكة . "

                وثانيهما " : أن الملائكة طلبت من الله تعالى أن يكون [ ص: 368 ] الاستخلاف فيهم والخليفة منهم حيث قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } الآية . فلولا أن الخلافة درجة عالية أعلى من درجاتهم لما طلبوها وغبطوا صاحبها .

                ( الدليل السابع تفضيل بني آدم عليهم بالعلم حين سألهم الله عز وجل عن علم الأسماء فلم يجيبوه ; واعترفوا أنهم لا يحسنونها فأنبأهم آدم بذلك ; وقد قال تعالى : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }

                . ( والدليل الثامن : وهو أول الأحاديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لزوال الدنيا على الله أهون من قتل رجل مؤمن والمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده } " . وهذا نص في أن المؤمنين أكرم على الله من الملائكة المقربين . ثم ذكر ما رواه الخلال عن { أبي هريرة : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر كلاما قال في آخره : ادنوا ووسعوا لمن خلفكم فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض فقال رجل : أنوسع للملائكة أو للناس ؟ قال : للملائكة إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ولا من خلفكم ولكن عن أيمانكم وشمائلكم . قالوا : ولم لا يكونون من بين أيدينا ومن خلفنا ؟ أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا ؟ قال : نعم . أنتم أفضل من الملائكة } " . [ ص: 369 ] رواه الخلال وفيه القطع بفضل البشر على الملائكة لكن لا يعرف حال إسناده فهو موقوف على صحة إسناده .

                وروى عبد الله بن أحمد في " كتاب السنة " عن عروة بن رويم قال : أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الملائكة قالوا : ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم فجعلتهم يأكلون ويشربون ويلبسون ويأتون النساء ويركبون الدواب وينامون ويستريحون ولم تجعل لنا شيئا من ذلك فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة } . وذكر الحديث مرفوعا كما تقدم موقوفا عن زيد بن أسلم عن أبيه . وزيد بن أسلم زيد في علمه وفقهه وورعه حتى إن كان علي بن الحسين ليدع مجالس قومه ويأتي مجلسه فلامه الزهري في ذلك فقال : إنما يجلس حيث ينتفع ; أو قال يجد صلاح قلبه .

                وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا ولا يستأثر بعضهم على بعض فلا يقول مثل هذا القول إلا عن بين والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله . وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم : أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك ولم يخالف أحد [ ص: 370 ] منهم في ذلك إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها وتفرق الآراء فقد كان ذلك كالمستقر عندهم .

                ( الدليل الحادي عشر : أحاديث المباهاة مثل : { إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وعشية عرفة فيباهي ملائكته بالحاج وكذلك يباهي بهم المصلين يقول : انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى } وكلا الحديثين في صحيح مسلم . والمباهاة لا تكون إلا بالأفاضل . فإن قيل هذه الأخبار رواها آحاد غير مشهورين ولا هي بتلك الشهرة فلا توجب علما والمسألة علمية . قلنا : " أولا " من قال إن المطلق في هذه القضية اليقين الذي لا يمكن نقيضه ؟ بل يكفي فيها الظن الغالب وهو حاصل . ثم ما المراد بقوله : علمية ؟ أتريد أنه لا علم ؟ فهذا مسلم . ولكن كل عقل راجح يستند إلى دليل فإنه علم وإن كان فرقة من الناس لا يسمون علما إلا ما كان يقينا لا يقبل الانتقاض وقد قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } وقد استوفى القول في ذلك في غير هذا الموضع فإن أريد علمية : لأن المطلوب الاستيقان ; فهذا لغو من القول لا دليل عليه ولو كان حقا لوجب الإمساك عن الكلام في كل أمر غير علمي إلا باليقين وهو تهافت بين . ثم نقول : هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق [ ص: 371 ] متباينة قد توجب اليقين لأولي الخبرة بعلم الإسناد وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم ; وليس من لوازم حصول العلم لهم حصوله لغيرهم إلا أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه . والعلوم على اختلاف أصنافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها لا سيما السمعيات الخبريات وإن زعم فرقة من أولي الجدل أن الضروريات يجب الاشتراك فيها فإن هذا حق في بعض الضروريات ; لا في جميعها مع تجويزنا عدم الاشتراك في شيء من الضروريات لكن جرت سنة الاشتراك بوقوع الاشتراك في بعضها فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها فجحدوا كثيرا من العلم الذي اختص به غيرهم .

                ثم نقول : لو فرضنا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد ظنا غالبا ; أو أن المطلوب هو الاستيقان ; فنقول : المطلوب حاصل بغير هذه الأحاديث وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الأدلة على هذه المقالة .

                ( الدليل الثاني عشر : قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة وتروى على رءوس الناس ولو كان هذا منكرا لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك . وهذا إن لم يفد اليقين القاطع فإن بعض الظن لم يقصر عن القوي [ ص: 372 ] الغالب وربما اختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف أحوالهم . ( الدليل الثالث عشر وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة - وهو أن نقول : التفضيل إذا وقع بين شيئين فلا بد من معرفة الفضيلة ما هي ؟ ثم ينظر أيهما أولى بها ؟ .

                وأيضا فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ونالوا الزلفى وسكنوا الدرجات العلى وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه وتجلى لهم ; يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم . فلينظر الباحث في هذا الأمر فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملائكة بعين التمام والكمال ونظروا الآدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة الكدرة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة وليس هذا بالإنصاف . فأقول : فضل أحد الذاتين على الأخرى إنما هو بقربها من الله تعالى ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا وإن كنا نحن لا ندرك حقيقة ذلك . هذا على سبيل الإجمال وعلى حسب الأمور التي هي في نفسها خبر محض وكمال صرف مثل الحياة والعلم والقدرة والزكاة والطهارة والطيب والبراءة من النقائص والعيوب فنتكلم على الفضلين : ( أما الأول : فإن جنة عدن خلقها الله تعالى وغرسها بيده ولم يطلع على [ ص: 373 ] ما فيها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وقال لها : تكلمي فقالت : ( قد أفلح المؤمنون . جاء ذلك في أحاديث عديدة وأنه ينظر إليها في كل سحر وهي داره فهذه كرامة الله تعالى لعباده المؤمنين التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس ولا يقال : هذا في حق المرسلين فإنها إنما بنيت لهم لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها وإنما هي معدة لهم ; فإنهم ذاهبون إلى كمال ومنتقلون إلى علو وارتفاع وهو جزاؤهم وثوابهم .

                وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة وتصديق هذا قوله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } . فحقيقة ما أعده الله لأوليائه غيب عن الملائكة وقد غيب عنهم أولا حال آدم في النشأة الأولى وغيرها . وفضل عباد الله الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم ; فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع الأعيان والأشخاص ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى أن يفوق جميع الأشخاص والأنواع الفاضلة فإن هذا تبديل الحقائق وقلب الأعيان عن صفاتها النفسية ; لكن ربما فاق بعض أشخاص النوع الفاضل مع [ ص: 374 ] امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته كما أن في بعض الخيل ما هو خير من بعض الخيل ولا يكون خيرا من جميع الخيل . إذا تبين هذا فقد حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون : أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه .

                روى ذلك محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد ; في تفسير : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة قال ابن جرير : وهذا ليس مناقضا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه لا يقول إن إجلاسه على العرش منكرا - وإنما أنكره بعض الجهمية ولا ذكره في تفسير الآية منكر - . وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت فضل النوع على النوع أعني صالحنا عليهم . " وأما الذوات " فإن ذات آدم خلقها الله بيده وخلقها الله على صورته ونفخ فيه من روحه ولم يثبت هذا لشيء من الذوات وهذا بحر يغرق فيه السابح لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية وإلا وقع إما في تمثيل أو في تعطيل .

                فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة وفوق كل ذي علم عليم . وليوقن كل الإيقان بأن ما جاءت به الآثار النبوية حق ظاهرا وباطنا وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } فلا تلجن باب إنكار ورود إمساك وإغماض - ردا [ ص: 375 ] لظاهره وتعجبا من باطنه - حفظا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جناب مولاك . إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتوق التمثيل والتشبيه ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم ; الذي هو أحد من السيف ; وأدق من الشعر ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

                التالي السابق


                الخدمات العلمية