الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم العاشر تجيء اللفظة الدالة على التكثير والمبالغة بصيغ من صيغ المبالغة [ ص: 77 ] كفعال وفعيل وفعلان ; فإنه أبلغ من " فاعل " .

ويجوز أن يعد هذا من أنواع الاختصار ; فإن أصله وضع لذلك ، فإن " ضروبا " ناب عن قولك : " ضارب وضارب وضارب " .

أما " فعلان " فهو أبلغ من " فعيل " ، ومن ثم قيل : الرحمن أبلغ من الرحيم - وإن كانت صيغة " فعيل " - من جهة أن " فعلان " من أبنية المبالغة ; كغضبان للممتلئ غضبا ; ولهذا لا يجوز التسمية به ، وحكاه الزجاج في تأليفه المفرد على البسملة .

وأما قول شاعر اليمامة :

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فهو من كفرهم وتعنتهم ، كذا أجاب به الزمخشري .

ورده بعضهم بأن التعنت لا يدفع وقوع إطلاقهم ، وغايته أنه ذكر السبب الحامل لهم على الإطلاق ، وإنما الجواب أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام ; وإنما استعملوه مضافا ومنكرا ، وكلامنا إنما هو في المعرف باللام .

وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد : " لا زلت ذا رحمة " ولم يرد الاسم المستعمل بالغلبة .

ويدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى : [ ص: 78 ] قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( الإسراء : 110 ) وأما قوله : قالوا وما الرحمن ( الفرقان : 60 ) فقال ابن العربي : إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ; ولذلك لم يقولوا : " ومن الرحمن ؟ " .

وذكر البرزاباذاني أنهم غلطوا في تفسير " الرحمن " حيث جعلوه بمعنى المتصف بالرحمة .

قال : وإنما معناه الملك العظيم العادل ; بدليل : الملك يومئذ الحق للرحمن ( الفرقان : 26 ) إذ الملك يستدعي العظمة والقدرة والرحمة لخلقه ; لا أنه يتوقف عليها .

وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن ( الفرقان : 60 ) وإنما يصلح السجود لمن له العظمة والقدرة ، و إني أعوذ بالرحمن ( مريم : 18 ) ولا يعاذ إلا بالعظيم القادر على الحفظ والذب .

وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ( مريم : 92 ) أي : وما ينبغي للعظيم القادر على كل شيء ، المستغني عن معاونة الوالد وغيره أن يتخذ ولدا .

الرحمن لا يملكون منه خطابا ( النبأ : 37 ) .

وخشعت الأصوات للرحمن ( طه : 108 ) .

قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ( الأنبياء : 42 ) ولا يحتاج الناس إلى حافظ يحفظهم من ذي الرحمة الواسعة .

إلا آتي الرحمن عبدا ( مريم : 93 ) .

[ ص: 79 ] إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ( مريم : 45 ) .

وربنا الرحمن المستعان ( الأنبياء : 112 ) .

من خشي الرحمن بالغيب ( ق : 33 ) .

ولا مناسبة لمعنى الرحمة في شيء من هذه المواضع ، وأما " رحيم " فهو من صفات الذات ، كقولهم : " كريم " .

وما ذكرناه من أن " الرحمن " أبلغ ذهب إليه أبو عبيد والزمخشري وغيرهما ، وحكاه ابن عساكر في " التكميل والإفهام " عن الأكثرين .

وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق عليه ، ونصره السهيلي بأنه ورد على لفظ التنبيه ، والتنبيه تضعيف ، وكأن البناء تضاعفت فيه الصفة .

وقال قطرب : المعنى فيهما واحد ; وإنما جمع بينهما في الآية للتوكيد .

وكذلك قال ابن فورك ، قال : وليس قول من زعم أن " رحيما " أبلغ بجيد ; إذ لا فرق بينهما في المبالغة ، ولو قيل : " فعلان " أشد مبالغة كان أولى ، ولهذا خص بالله ; فلا يوصف به غيره ، ولذلك قال بعض التابعين : الرحمن اسم ممنوع ; وأراد به منع الخلق أن يتسموا به ، ولا وجه لهذا الكلام إلا التوكيد وإتباع الأول ما هو في معنى الثاني .

وقال ابن عباس : " هما اسمان رقيقان ; أحدهما أرق من الآخر " .

[ ص: 80 ] وعن الخطابي استشكال هذا ، وقال : لعله أرفق كما جاء في الحديث : إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله .

وقال ابن الأنباري في " الزاهر " : الرحيم أبلغ من الرحمن .

ورجحه ابن عساكر بوجوه منها : أن الرحمن جاء متقدما على الرحيم ، ولو كان أبلغ لكان متأخرا عنه ; لأنهم في كلامهم إنما يخرجون من الأدنى إلى الأعلى فيقولون : فقيه عالم ، وشجاع باسل ، وجواد فياض ، ولا يعكسون هذا لفساد المعنى ; لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته ، فلم يكن لذكره معنى .

وهذا قد ذكره الزمخشري ، وأجاب عنه بأنه من باب الإرداف ، وأنه أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ; ليكون كالتتمة والرديف ; ليتناول ما رق منها ولطف .

وفيه ضعف ; لا سيما إذا قلنا : إن الرحمن علم لا صفة ، وهو قول الأعلم وابن مالك ، وأجاب الواحدي في " البسيط " بأنه لما كان الرحمن كالعلم - إذ لا يوصف به إلا الله - [ ص: 81 ] قدم ; لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها ثم يتبع الأنكر ، وما كان في التعريف أنقص .

قال : وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين ، فجاء هذا على منهاج كلام العرب .

وأجاب الجويني بأن الرحمن للخلق ، والرحيم لهم بالرزق ، والخلق قبل الرزق .

ومنها أن أسماء الله تعالى إنما يقصد بها المبالغة في حقه ، والنهاية في صفاته ، وأكثر صفاته سبحانه جارية على " فعيل " كرحيم ، وقدير ، وعليم ، وحكيم ، وحليم ، وكريم ، ولم يأت على " فعلان " إلا قليل ، ولو كان " فعلان " أبلغ لكان صفات الباري تعالى عليه أكثر .

قلت : وجواب هذا أن ورود " فعلان " بصيغة التكثير كان في عدم تكرار الوصف به ، بخلاف " فعيل " فإنه لما لم يرق في الكثرة رقته كثر في مجيء الوصف .

ومنها أنه إن كانت المبالغة في " فعلان " من جهة موافقة التثنية - كما زعم السهيلي - ففعيل من أبنية جمع الكثرة كعبيد وكليب ، ولا شك أن الجمع أكثر من التثنية ، وهذا أحسنها .

قال : وقول قطرب : " إنهما بمعنى واحد " فاسد ; لأنه لو كان كذلك لتساويا في التقديم والتأخير ، وهو ممتنع .

تنبيهات صيغ المبالغة في أسماء الله الأول : نقل عن الشيخ برهان الدين الرشيدي - رحمه الله - أن صفات الله التي [ ص: 82 ] هي صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلها مجاز ; إذ هي موضوعة للمبالغة ، ولا مبالغة فيها ; لأن المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر مما له ، وصفات الله متناهية في الكمال ، لا يمكن المبالغة فيها ، والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان ، وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك .

انتهى .

وذكر هذا للشيخ ابن الحسن السبكي فاستحسنه ، وقال : إنه صحيح إذا قلنا : إنها صفات .

فإن قلنا : أعلام ; زال ذلك .

قلت : والتحقيق أن صيغ المبالغة على قسمين .

أحدهما : ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل .

والثاني : بحسب تعدد المفعولات .

ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة ; إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين .

وعلى هذا التقسيم يجب تنزيل جميع أسماء الله تعالى التي وردت على صيغة المبالغة ; كالرحمن والغفور والتواب ونحوها ، ولا يبقى إشكال حينئذ ; لهذا قال بعض المفسرين في حكيم : معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع .

وقال الزمخشري في سورة الحجرات : المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب إليه من عباده ، أو لأنه بليغ في قبول التوبة ، نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه .

[ ص: 83 ] وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا في قوله تعالى : والله على كل شيء قدير ( البقرة : 284 ) وهو أن " قديرا " من صيغ المبالغة يستلزم الزيادة على معنى " قادر " ، والزيادة على معنى " قادر " محال ; إذ الاتحاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد فرد .

وأجيب عنه بأن المبالغة لما لم يقدر على حملها كل فرد وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التي دل السياق عليها ، والمبالغة إذن بالنسبة إلى تكثير التعلق لا بالنسبة إلى تكثير الوصف .

وكذلك قوله تعالى : والله بكل شيء عليم ( البقرة : 282 ) يستحيل عود المبالغة إلى نفس الوصف ; إذ العلم بالشيء لا يصح التفاوت فيه ، فيجب صرف المبالغة فيه إلى المتعلق ، إما لعموم كل أفراده ، وإما لأن يكون المراد الشيء ولواحقه ، فيكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل .

الثاني : سئل أبو علي الفارسي : هل تدخل المبالغة في صفات الله تعالى فيقال : " علامة " ؟ فأجاب بالمنع ; لأن الله تعالى ذم من نسب إليه الإناث لما فيه من النقص ، فلا يجوز إطلاق اللفظ المشعر بذلك .

حكاه الجرجاني في " شرح الإيضاح " .

الثالث : أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف ; لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة .

وأورد الزمخشري بأنه لا يمنع " فعلان " صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه " فعلى " كغضبان وغضبى ، وما لم يكن مؤنثه " فعلى " ينصرف كندمان وندمانة ، وتبعه ابن عساكر بأن " رحمن " - وإن لم يكن له مؤنث على فعلى - فليس له مؤنث على [ ص: 84 ] " فعلانة " ; لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه ، فإذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس ، وكل ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف .

قال الجويني : وهذا فيه ضعف في الظاهر ، وإن كان حسنا في الحقيقة ; لأنه إذا لم يشبه " غضبان " ولم يشبه " ندمان " من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن الأصل الصرف ؟ ! بل كان ينبغي أن يقال : ليس هو كغضبان ; فلا يكون غير منصرف ، ولا يصح أن يقال : ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا ; لأن الصرف ليس بالشبه ، إنما هو بالأصل ، وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد .

قلت : والتقدير الذي نقلناه عن ابن عساكر يدفع هذا عن الزمخشري ، نعم أنكر ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله بـ " الرحمن " لزيادة الألف والنون في منع الصرف وقال : لم يمثل به غيره ، ولا ينبغي التمثيل به ، فإنه اسم علم بالغلبة لله تعالى مختص به ، وما كان كذلك لم يجرد من " ال " ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا مثل : يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة .

قال : وقد أنكر على الشاطبي ، رحمه الله :

تبارك رحمانا رحيما وموئلا

لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة .

ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب ; فذكر أنه من تعنتهم في كفرهم كما سبق .

وأما " فعيل " فعند النحاة أنه من صيغ المبالغة والتكرار ; كرحيم وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ ، وحكيم ، وحليم ، وعليم ; فإنه محول عن فاعل بالنسبة ، وهو إنما يكون كذلك للفاعل لا للمفعول به ، بدليل قولهم : قتيل وجريح ، والقتل لا يتفاوت .

[ ص: 85 ] وقد يجيء في معنى الجمع كقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا ( النساء : 69 ) وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير ( التحريم : 4 ) وقوله : خلصوا نجيا ( يوسف : 80 ) وغير ذلك .

ومن المشكل : وما كان ربك نسيا ( مريم : 64 ) فإن النفي متوجه على الخبر وهو صيغة مبالغة ، ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل ، فلا يلزم نفي أصل النسيان ، وهو كالسؤال الآتي في ( ظلام للعبيد ) .

ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة ، ويختص هذا بجواب آخر ; وهو مناسبة رءوس الآي قبله .

وأما فعال فنحو : غفار ، ومنان ، وتواب ، ووهاب فعال لما يريد ( البروج : 16 ) علام الغيوب ( المائدة : 116 ) ونحو : لكل صبار شكور ( إبراهيم : 5 ) ونحو : نزاعة للشوى ( المعارج : 16 ) .

ومن المشكل قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد ( فصلت : 46 ) وتقريره أنه لا يلزم من نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم ، والواقع نفيه قال الله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ( يونس : 44 ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( النساء : 40 ) .

وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا : أحدها : أن " ظلاما " وإن كان يراد به الكثرة لكنه جاء في مقابله " العبيد " وهو جمع كثرة إذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا .

ويرشح هذا الجواب أنه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر : علام الغيوب ( المائدة : 116 ) فقابل صيغة " فعال " بالجمع وقال في موضع آخر : عالم الغيب ( الجن : 26 ) فقابل صيغة " فاعل " الدالة على أصل الفعل بالواحد .

[ ص: 86 ] وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ( النساء : 172 ) حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة على الأنبياء .

وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة ، وليس النزاع في تفضيل الجمع على الواحد .

الثاني : أنه نفى الظلم الكثير ، فينتفي القليل ضرورة ; لأن القليل الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان الظلم القليل في المنفعة أكثر .

الثالث : أنه على النسب ، واختاره ابن مالك ، وحكاه في " شرح الكافية " عن المحققين ، أي : ذا ظلم ، كقوله :

وليس بنبال

أي بذي نبل ، أي : لا ينسب إلى الظلم فيكون من باب : بزاز وعطار .

الرابع : أن فعالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقول طرفة :

ولست بحلال التلاع مخافة     ولكن متى يسترفد القوم أرفد

[ ص: 87 ] لا يريد أنه يحل التلاع قليلا ; لأن ذلك يدفعه قوله : "

يسترفد القوم أرفد

" هذا بدل على نفي الحال في كل حال ; لأن تمام المدح لا يصل بإيراد الكثرة .

الخامس : أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه - وقد جل عنه - لكان كثيرا ; لاستغنائه عنه ، كما يقال : " زلة العالم كبيرة " .

ذكره الحريري في " الدرة " قال : وإليه أشار المخزومي في قوله :

كفوفة الظفر تخفى من حقارتها     ومثلها في سواد العين مشهور

السادس : أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد ، ويصدق بنفي كل واحد ، ويعين الثاني في الآية للدليل الخارجي ، وهو قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( النساء : 40 ) .

السابع : أنه أراد : " ليس بظالم ، ليس بظالم ، ليس بظالم " فجعل في مقابله ذلك : وما ربك بظلام ( فصلت : 46 ) .

الثامن : أنه جواب لمن قال : ظلام ، والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم ، كما إذا خرج مخرج الغالب .

التاسع : أنه قال : " بظلام " ; لأنه قد يظن أن من يعذب غيره عذابا شديدا ظلام قبل الفحص عن جرم الذنب .

[ ص: 88 ] العاشر : أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة فيها وغير المبالغة سواء في الإثبات جرى النفي على ذلك .

الحادي عشر : أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلاما للعبيد من ولاة الجور .

وأما " فعال " بالتخفيف والتشديد نحو عجاب وكبار ، قال تعالى : إن هذا لشيء عجاب ( ص : 5 ) وقال : ومكروا مكرا كبارا ( نوح : 22 ) قال المعري في " اللامع العزيزي " : " فعيل " إذا أريد به المبالغة نقل به إلى " فعال " وإذا أريد به الزيادة شددوا فقالوا : " فعال " ، ذلك من عجيب وعجاب وعجاب ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إن هذا لشيء عجاب ( ص : 5 ) بالتشديد ، وقالوا : طويل وطوال ، ويقال : نسب قريب وقراب ، وهو أبلغ ; قال الحارث بن ظالم :

وكنت إذا رأيت بني لؤي     عرفت الود والنسب القرابا

وأما " فعول " : كغفور وشكور وودود فمنه قوله تعالى : إن الإنسان لظلوم كفار ( إبراهيم : 34 ) .

وقوله تعالى في نوح : إنه كان عبدا شكورا ( الإسراء : 3 ) .

وقد أطربني قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور ( سبأ : 13 ) فقلت : الحمد لله الذي ما قال " الشاكر " .

فإن قيل : قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ( الإنسان : 3 ) كيف غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران ؟ [ ص: 89 ] قلت : هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي ، فأجاب بأن نعم الله على عباده كثيرة ، وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل ، وكل كفر يأتي في مقابلتها عظيم ، فجاء " شكور " بلفظ " فاعل " ، وجاء " كفور " بلفظ " فعول " على وجه المبالغة ، فتهلل وجه الصاحب .

وأما فعل فقوله تعالى : وإنا لجميع حاذرون ( الشعراء : 56 ) .

وقوله تعالى : كذاب أشر ( القمر : 25 ) قرن " فعلا " بفعال .

وأما فعل : فيكون صفة ، كقوله تعالى : أهلكت مالا لبدا ( البلد : 6 ) اللبد : الكثير .

وقوله تعالى : إنها لإحدى الكبر ( المدثر : 35 ) .

ويكون مصدرا كهدى وتقى ، ويكون معدولا عن أفعل من كذا كقوله تعالى : وأخر متشابهات ( آل عمران : 7 ) وقوله تعالى : فعدة من أيام أخر ( البقرة : 184 ) كما قال : أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ( الأنعام : 19 ) .

وأما فعلى : فيكون اسما ، كالشورى والرجعى ، قال الله تعالى : إن إلى ربك الرجعى ( العلق : 8 ) وقال تعالى : وكلمة الله هي العليا ( التوبة : 40 ) .

ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن ، والسوءى في تأنيث الأسوأ ، قال تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله ( الروم : 10 ) .

قال الفارسي : يحتمل السوأى تأويلين .

أحدهما : أن يكون تأنيث " الأسوأ " والمعنى كان عاقبتهم لخلة السوأى ، فتكون " السوأى " على هذا خارجة من الصلة ، فتنصب على الموضع ، وموضع " أن " [ ص: 90 ] نصب ، فإنه مفعول له ، أي : كان عاقبتهم الخصلة السوأى لتكذيبهم .

الثاني : أن يكون السوأى مصدرا مثل الرجعى ، وعلى هذا فهي داخلة في الصلة ، ومنتصبة بأساءوا ، كقوله تعالى وتبتل إليه تبتيلا ( المزمل : 8 ) ويكون أن كذبوا نصبا ; لأنه خبر كان .

ويجوز في إعراب " السوأى " وجه ثالث ; وهو أن يكون في موضع رفع صفة " العاقبة " وتقديرها : ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب .

و " الفعلى " في هذا الباب - وإن كانت في الأصل صفة ، بدليل قوله تعالى : وهم بالعدوة القصوى ( الأنفال : 42 ) وقوله تعالى : فأراه الآية الكبرى ( النازعات : 20 ) ، فجرت صفة على موصوفها - فإنها في كثير من الأمور تجرى مجرى الأسماء ; كالأبطح والأجرع والأدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية