الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن ادعى أمرا مختلفا في حده وحقيقته الشرعية كدعوى الرضاع والميراث والتفسيق ونجاسة الماء . فللمدعى به حالان : إحداهما : أن تختلف رتبته وله مثالان : أحدهما الشهادة بالرضاع ، وللحاكم ثلاثة أحوال : الحال الأولى أن يقول بأدنى رتب الأسباب فيحرم بالمصة والمصتين كمالك فيلزمه السماع والحكم ; لأن الشهادة لم تتردد بين ما يقبل وبين ما لا يقبل .

الحال الثانية : أن يقول بثلاث رضعات فلا يكفي بمجرد الشهادة بالرضاع لترددها بين الثلاث المحرمة وما دونها .

الحال الثالثة : أن يقول أشهد أنها ارتضعت منها رضعات ، فلمن يقول بالثلاث أن يعتمد على شهادته ، إذ لا تردد فيها بين المحرم وغيره ، وإن شهدت البينة عند من يقول بالخمس لم يحكم بها ; لترددها بين الخمس وما دونها .

المثال الثاني : أن يشهد بانحصار الإرث في إنسان ولا يذكر سبب الإرث [ ص: 93 ] مثل أن يقول أشهد أن هذا وارث فلان لا وارث له سواه ، فإن كان الحاكم ممن يقول بتوريث ذوي الأرحام قبلها ; لأنه إن كان من ذوي الأرحام ورث بالرحم ، وإن كان من غير ذوي الأرحام ورث بالقرابة أو بالولاء فلم تتردد الشهادة بين ما يورث وما لا يورث ; لأنها إن حملت على أدنى الأسباب ثبت الإرث ، وإن حملت على أعلاها ثبت الإرث ، فالإرث ثابت بكل حال دنية أو علية ، وإن كان الحاكم ممن لا يورث بالرحم لم يقبل الشهادة حتى يبين الشاهد سبب الإرث كالبنوة والأخوة لتردد شهادته بين ما يثبت الإرث وما لا يثبته ، ولو نص على أنه وارثه بالبنوة لقبل ; لأن حصر الإرث في الأخوة قد يكون الأخ من الأم عند من يراه .

الحال الثانية : أن يكون المشهود به مما لا رتب له في التبرع وليس له لفظ يختص به ويظهر فيه وله أمثلة : أحدها : أن يشهد بنجاسة ماء أو طعام فإن ذكر سببا مجمعا عليه أو سببا يراه الحاكم قبل شهادته ، وإن أطلق شهادته لم تقبل ; لأنه قد يعتقد ما ليس بنجس نجسا إما لجهله بالنجاسات ، وإما لاعتقاده نجاسة لا يراها الحاكم كسؤر السباع .

المثال الثاني : تفسيق الشهود لا يقبل مطلقا ; لأن الشاهد قد يظن ما ليس بمفسق مفسقا ، أو يرى التفسيق بسبب لا يراه الحاكم مفسقا .

المثال الثالث : الشهادة بالإكراه لا تقبل مطلقة ; لأنه قد يرى ما ليس بإكراه إكراها لجهله ، أو يعتقد الإكراه بسبب لا يراه الحاكم إكراها ، وليس للإكراه المعتبر لفظ يظهر فيه بخلاف ألفاظ التصرفات ، ولا يجوز حمل الإكراه على أدنى الرتب .

[ ص: 94 ] وضابط هذا كله أن الدعوى والشهادة والرواية المرددة بين ما يقبل وما لا يقبل لا يجوز الاعتماد عليها إذ ليس حملها على ما يقبل أولى من حملها على ما لا يقبل ، والأصل عدم المشهود به والمخبر عنه ، فلا يترك الأصل إلا بيقين أو ظن يعتمد الشرع على مثله .

وأيضا فإن اللفظ المردد المحمل غير مقبول في الشهادات ; لأنه لا يتوجه إلى مقصود الخصم بدلالة لفظية بخلاف ما ذكر من ألفاظ التصرفات فإنها صريحة في مدلولاتها ويشكل على هذا مسألتان .

إحداهما : أن الشهادة المطلقة بالملك مقبولة ، وإن لم يذكر سببه .

وكذلك الشهادة بالدين مع أن أسبابهما مختلف فيها فلعل الشاهد أسند الملك والدين إلى سبب لا يصلح أن يكون سببا لجهله ، أو أسندهما إلى سبب لا يراه الحاكم سببا وهذا مشكل جدا .

المسألة الثانية : إذا قال الشاهد : إن بين هذين رضاعا محرما فإن الرضاع يثبت على ما ذكره بعض أصحابنا مع أن الشاهد قد يظن أن التحريم قد يحصل بالمصة أو بثلاث رضعات أو بخمس رضعات فيصفه بالتحريم بناء على اعتقاده ومذهبه ، فإن الناس يحرمون ويحللون ويوجبون ويحظرون بناء على عقائدهم ومذاهبهم ، ولو أطلق الشاهد الشهادة بأن اللقيط ملك الملتقط فيه قولان من جهة أن الشاهد قد يسند الشهادة إلى يد الالتقاط مع جهله بكونها يد التقاط .

وفي مسألة الإقرار إشكال أيضا من جهة أن الإنسان إنما يقر في الغالب بما يعتقد صحته وليس كل عقد يباشر صحيحا ، بل هو منقسم إلى الصحيح والفاسد ، وليس العقد المختلف في فساده نادرا بل هو غالب ، ففي حمل الإقرار عليه من غير استفصال هذا الإشكال ، ولا سيما المعاطاة فإنه [ ص: 95 ] غالب على المحقرات ، فإذا أقر ببيع محقر أو شرائه فكيف يؤاخذه من لا يرى بيع المعاطاة ؟ وكذلك بيع ما لم ير كثير الوقوع ، ولا سيما في الثياب المطوية ، والسلع التي جرت العادة أنها لا تقلب ولا ترى في البياعات .

كالثياب والأكسية والجلود وغيرها ، فينبغي أن يستفسر المقر كما يستفسر الشاهد ، فإن ذكر سببا صحيحا حكم به ، وإلا فلا ، ولو أقر بالسرقة ثبت المال ولا يقطع حتى يفصلها .

فإن قيل : هلا قبلتم الشهادة بالمجهول وطالبتم الشاهد بتفسيره كما تقبلون الإقرار بالمجهول وتطالبون المقر بتفسيره ؟ .

قلنا : هذا مختلف فيه والمختار قبوله واستفسار الشاهد عما شهد به كما يستفسر عما أقر به ، إذ ليس بينهما كبير فارق ويعتمد على مثله ; ولأن استفساره أقرب إلى فصل الحكومة ، وإن لم يفسر الشاهد ألزمنا المشهود عليه بتفسير ما أجمله الشاهد كما يلزم المقر بتفسير ما أجمله في إقراره .

التالي السابق


الخدمات العلمية