الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2528 2673 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على يمين ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان". [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح: 5 \ 284]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الأثر الأول رواه مالك في "الموطأ" عن داود بن حصين، سمع أبا غطفان بن طريف المري قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع -يعني: عبد الله- إلى مروان في دار فقضى باليمين على زيد على المنبر فقال: احلف له مكاني. قال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق. فجعل زيد يحلف أن حقه لحق، ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك، قال مالك: لا أرى أن يحلف على المنبر في [ ص: 641 ] أقل من ربع دينار، وذلك (ثلاث) دراهم.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث المعلق؛ فقد سلف قريبا مسندا. قال الإسماعيلي: إذا لم يمنع من تغليظها؛ بأن يكون بعد العصر للخبر الذي رواه، فكذا لم يمنع من تغليظها بأن تكون عند المنبر; لقوله - عليه السلام-: "من حلف على منبري -أو عند منبري- كاذبا ولو على قضيب من أراك، وجبت له النار" أو كما قال، وحديث ابن مسعود سلف قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في هذا الباب، فجملة مذهب مالك فيه، كما قال أبو عمر: إن اليمين لا تكون عند المنبر من كل جامع ولا في الجامع حيث كان، إلا في ربع دينار فصاعدا، وما دون ذلك حلف فيه في مجلس الحاكم أو حيث شاء من المواضع في السوق أو غيرها، وليس عليه التوجه إلى القبلة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية ابن الماجشون عنه: يحلف قائما مستقبل القبلة، قال: ولا يعرف مالك [اليمين عند] المنبر إلا منبر المدينة فقط، ومن أبى أن يحلف عنده فهو كالناكل عن اليمين، ويحلف في أيمان القسامة عند مالك إلى مكة -شرفها الله- كل من كان من عملها يحلف بين الركن والمقام، وكذلك المدينة يحلف عند المنبر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 642 ] وحكى أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز حمل قوما اتهمهم بفلسطين إلى الصخرة، فحلفوا عندها، قال: وذهب الشافعي إلى نحو قول مالك، إلا أنه لا يرى اليمين عند منبر المدينة، ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارا فصاعدا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي: وقد عاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار بعده عن أصحابه.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم أن زيد بن ثابت: كان لا يرى اليمين على المنبر، وإنا روينا ذلك عنه وخالفناه إلى قول مروان بغير حجة، قال: وهذا مروان يقول لزيد وهو أحظى أهل زمانه وأرفعهم لديه منزلة: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق، قال: فما منع زيد بن ثابت (لو يعلم) أن اليمين على المنبر حق أن يقول: مقاطع الحقوق مجلس الحكم، كما قال أبو حنيفة وأصحابه: ما كان زيد ليمتنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا؛ حيث قال له: أتحل الربا؟ قال: أعوذ بالله. قال: إن الناس يبتاعون الصكوك قبل أن يقبضوها، فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس.

                                                                                                                                                                                                                              فإذا كان مروان لا ينكر على زيد هذا، فكيف ينكر عليه في نفسه أن يلزمه اليمين على المنبر؟

                                                                                                                                                                                                                              لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان، ولكن زيدا علم أن ما قضى به مروان هو الحق، وكره أن تصبر يمينه عند المنبر. قال الشافعي: وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف: لاجتماعنا على اليمين عند المنبر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 643 ] وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب استحلاف أحد عند منبر المدينة، ولا بين الركن والمقام في قليل الأشياء ولا في كثيرها، ولا في الدماء ولا غيرها، لكن الحكام يحلفون من وجبت عليه اليمين في مجالسهم.

                                                                                                                                                                                                                              وإلى هذا القول ذهب البخاري، ونقل ابن بطال عن مالك أنه لا يحلف عند منبر إلا منبر المدينة، واعتبر القطع، واعتبر الشافعي الزكاة، وكذا عند منبر كل مسجد.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جريج عن عكرمة قال: أبصر عبد الرحمن بن عوف قوما يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم؟ فقيل: لا. فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قال: لا. قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم في التعظيم مثل ذلك; لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج أبو حنيفة بأنا روينا عن زيد بن ثابت أنه لم يحلف عند المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجة، قال: وليس قوله - عليه السلام-: "من حلف على منبري هذا .. " يوجب أن الاستحلاف لم يجب، واحتج عليه الشافعي فقال: لو يعلم زيد أن اليمين عند المنبر غير سنة لأنكر ذلك على مروان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال: (والله لا أحلف إلا في مجلسك ..) إلى آخر ما أسلفناه عنه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: واليمين عند المنبر بمكة والمدينة لا خلاف فيه في قديم ولا حديث، وإن نقل الحديث فيه تكلف؛ لاجتماع السلف عليه، ولقد بلغني أن عمر حلف عند المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 644 ] وأن عثمان ردت عليه اليمين عند المنبر فافتدى منها. وقال: أخاف أن توافق قدرا فيقال: إنه بيمينه.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب: وإنما أمر أن يحلف في أعظم موضع من المسجد; ليرتدع أهل الباطل. وهذا مستنبط من قوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله [المائدة: 106] فاشتراط بعد الصلاة; تعظيما للوقت وإرهابا; لشهود الملائكة ذلك الوقت، فخصوصية وقت التعظيم كخصوصية موضعه، ألا ترى ما ظهر من تهيب زيد بن ثابت للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصي والخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: التغليظ بالمكان قاله مالك والشافعي; لقوله - عليه السلام -: "من حلف عند منبري هذا على يمين; ليقتطع بها مال مسلم .. " الحديث. ولا حجة فيه; لأنه لم يتكلم على موجب ذلك وصفته في الدنيا، وأيضا فإن مروان قال لزيد: والله ما يحلف إلا عند مقاطع الحقوق. ولم ينكر عليه زيد، ولو قال له زيد: ما هذا. على ما خالفه مروان.

                                                                                                                                                                                                                              وروي أن مروان قضى على زيد حين نكل عن اليمين عند المنبر، وقاله مالك، قال: فإنما كره زيد يمين الصبر. يعني: اليمين التي يقام صاحبها بحضرة الناس حتى يحلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف في عشر مسائل:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: ما الذي يغلظ فيه من الحقوق، وقد سلف عن مالك ربع دينار فأكثر، وعن الشافعي في عشرين دينارا فأكثر، ونقل القاضي في "معونته" عن بعض المتأخرين أنه تغلظ في القليل والكثير.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 645 ] وقال ابن الجلاب: يحلف على أقل من ربع دينار في سائر المساجد.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: في حلفه قائما، وبه قال مالك، فيما حكاه ابن القاسم إلا من به علة، وقال عنه ابن كنانة: لا يلزمه أن يحلف قائما.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: قال ابن القاسم: لا يستقبل القبلة. وخالفه مطرف وابن الماجشون.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: هل يحلف في دبر صلاة وحين اجتماع الناس إذا كان المال كثيرا. قال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: ليس ذلك عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن كنانة، عن مالك: يتحرى به الساعات التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: في صفة ما يحلف به، فقال مالك: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن كنانة عنه: يحلف في ربع دينار فأكثر. يزيد على [ما] تقدم: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي: يزيد: الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 646 ] وقال سحنون: يحلف بالله وبالمصحف. ذكره عنه الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: هل تخرج المرأة في ربع دينار; ظاهر "المدونة" المنع، وخالفه ابن حبيب.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: هل يحلف بحضرة المصحف; أباه مالك، وألزمه ذلك بعض المكيين في عشرين دينارا فأكثر، وذكر عن ابن المنذر أنه حكى عن الشافعي أنه قال: رأيت مطرفا بصنعاء يحلف بحضرة المصحف.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: هل تحلف المرأة في أقرب المساجد إليها، قاله سحنون. أو في الجامع، قاله الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: في صفة يمين أهل الكتاب والمجوس: ففي "المدونة": لا يحلفهم إلا بالله.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مطرف وابن الماجشون: يحلفون كالمسلمين.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الواقدي، عن مالك: يحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وقاله الشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 647 ] وقال ابن شعبان: كان بعض أصحابنا يحلف اليهود: لا والذي على العرش استوى، قال: وهو حسن.

                                                                                                                                                                                                                              وقال شريح: يجعل الإنجيل على مذبح النصراني إذا استحلفه، وفي السبت قولان: نعم. وقيل: لا. بخلاف النصراني يوم الأحد.

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: تغلظ بالموضع، خلافا لأبي حنيفة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية