الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار الظهر أو العصر فسلم من اثنتين فقال له ذو الشمالين أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قصرت الصلاة وما نسيت فقال ذو الشمالين قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال أصدق ذو اليدين فقالوا نعم يا رسول الله فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سلم [ ص: 351 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 351 ] 212 210 - ( مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر ) قال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم وهو من ثقات التابعين عارف بالنسب ( ابن سليمان بن أبي حثمة ) بفتح الحاء المهملة وإسكان المثلثة ابن غانم العدوي ، وفي الإصابة أبوه سليمان له رؤية وجده أبو حثمة صحابي من مسلمة الفتح ( قال : بلغني ) قال أبو عمر : حديثه هذا منقطع عند جميع رواة الموطأ ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار ) لا تخالف رواية من روى إحدى صلاتي العشي ؛ لأن العشي بفتح العين وكسر المعجمة وشد الياء من الزوال وقد قال ( الظهر أو العصر ) بالشك وتقدم ما فيه ( من اثنتين ) أي من ركعتين ( فقال له ذو الشمالين ) رجل من بني زهرة بن كلاب أي من حلفائهم وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو استشهد يوم بدر ، قال الحافظ : اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك ؛ لأنه قتل ببدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين وإنما هو ذو اليدين عاش مدة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدث بهذا الحديث كما أخرجه الطبراني وغيره ، وجوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين ، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين ، وشاهد الثاني وهو قصة ذي اليدين ، وهذا محتمل في طريق الجمع وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سبب الاشتباه ، قال : وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادا على ما في مسلم عن عمران بن حصين فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول ، وهذا منبع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري ، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد لاختلاف السياقين ، ففي حديث أبي هريرة أنه سلم من اثنتين وأنه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى خشبة في المسجد ، وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة ، فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده ، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة ، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة ، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة سأل قصرت الصلاة أم نسيت ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهم الصحابة عن صحة قوله ، وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لأن الخشبة كانت في جهته ، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة [ ص: 352 ] أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ، ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي حثمة وغيرهم ، وفي الصحيحين عن ابن سيرين ما يدل على أنه كان يرى التوحيد بينهما ، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة : نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم وفيما رجحه نظر ، فإن حمله على أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة لا يصح ؛ لأن السلام وقع وهو جالس عقب الركعتين فأين ابتداء الثالثة ، وغاية ما يمكن تصحيحه بتقدير مضاف هو في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوا قبل القيام ولا دليل عليه ، وقوله ليس بأبعد من دعوى التعدد للزوم وقوع الاستفهام في المرتين من ذي اليدين والنبي - صلى الله عليه وسلم - مردود بأنه لا بعد فيه ، ولو لزم ذلك استفهام دعوى ذي اليدين أولا لأنه لم يمنع استفهامه ، ثانيا لأنه زمان نسخ لا سيما وقد اقتصر عمران على قوله : أقصرت الصلاة يا رسول الله ؟ كما في مسلم ، وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قول ذي اليدين في المرة الأولى لا يمنع ذلك في المرة الثانية لأن الصلاة لم تقصر ، وقد سلم معتقدا الكمال ، والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدا ، بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدا ، ولا ريب أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقدير مضاف بلا قرينة ، وكونها حديث أبي هريرة لا ينهض لاختلاف المخرج أي الصحابي ، ثم ماذا يصنع بقول عمران في حديثه فصلى ركعة ثم سلم ، وفي رواية : فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ، ثم سجد سجدتي السهو ، ثم سلم وكلاهما في مسلم ، وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوا ظاهرا ، فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير ، وموافقة ابن عمر وذي اليدين لأبي هريرة على سياقه لا يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره ، وليس في قول ابن سيرين : نبئت أن عمران قال : " ثم سلم " دلالة قوية على أنه يرى اتحاد الحديثين ، إذ غاية ما أفاده أن عمران قال في حديثه : ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة ، وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه ؟ وأما قوله : لعله ظن أنه دخل منزله فبعيد جدا أو ممنوع لما يلزم عليه أنعمران أخبر بالظن وهو قد شاهد القصة ، كيف وقد قال : إنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله ؟ فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم ، أخرجه مسلم عن عمران .

                                                                                                          أفلا يعلم الحجرة من الخشبة التي في المسجد ويؤول بذلك التأويل المتعسف فرارا من دعوى التعدد مع أنه أقرب من هذا بلا ريب .

                                                                                                          ( أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 353 ] ما قصرت الصلاة وما نسيت ) فصرح بنفيهما معا عنه ، وهو يفسر المراد بقوله في الرواية السابقة : كل ذلك لم يكن ، من أنه نفي لكل واحد منهما لا لمجموعهما ولذا أجابه ( فقال ذو الشمالين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ) وفي رواية : " بلى قد نسيت " ، لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أنه لا يجوز السهو عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر ، وفائدة جواز السهو في مثل هذا بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره وفيه حجة لمن جوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع ولكن لا يقر عليه ، وأما من منع السهو مطلقا فأجابوا عن هذا الحديث بأنه نفي النسيان ولا يلزم منه نفي السهو ، وهذا قول من فرق بينهما وهو مردود ويكفي فيه قوله : بلى قد نسيت ، وأقره على ذلك ، وبأن قوله : وما نسيت ، على ظاهره وحقيقته ، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع للتشريع بالفعل لأنه أبلغ من القول ، وبأن معنى وما نسيت أي في اعتقادي لا في نفس الأمر ، ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقامه ، وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين : " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون " فأثبت العلة قبل الحكم بقوله : إنما أنا بشر ، ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال : كما تنسون ، وهذا الحديث أيضا يرد قول من قال معنى قوله : ما نسيت إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال : إني لا أنسى ولكن أنسى ، وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره بقوله : بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا ، وتعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني لا أنسى من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة ، وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة كل شيء ، فإن الفرق بينهما واضح جدا ، وقيل : قوله : وما نسيت راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على اعتقادي أني صليت أربعا وهذا جيد ، فإن ذا اليدين فهم العموم فقال : بلى قد نسيت ، فأوقع قوله شكا احتاج معه إلى الاستثبات من الحاضرين .

                                                                                                          ( فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم ، يا رسول الله ) صدق لم تصل إلا ركعتين ، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين لم يقبل خبره بمفرده ، فسبب التوقف فيه كونه أخبر بأمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده ، وبهذا أجيب عمن قال : من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ، ثم لم يكذبوه أنه يقطع بصدقه فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به ، وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المحل متحدا ومنعت العادة غفلتهم عن ذلك فإنه لا يقبل خبره .

                                                                                                          ( فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي [ ص: 354 ] من الصلاة ثم سلم ) قال الباجي : لم يذكر ابن شهاب في حديثه هذا سجود السهو ، وقد ذكره جماعة من الحفاظ عن أبي هريرة ، والأخذ بالزائد أولى إذا كان رواية ثقة .

                                                                                                          وقال أبو عمر : كان ابن شهاب أكثر الناس بحثا عن هذا الشأن فكان ربما اجتمع له في الحديث جماعة فحدث به مرة عنهم ومرة عن أحدهم ومرة عن بعضهم على قدر نشاطه حين تحديثه ، وربما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض كما صنع في حديث الإفك وغيره ، وربما كسل فلم يسند ، وربما انشرح فوصل وأسند على حسب ما تأتي به المذاكرة ، فلذا اختلف عليه أصحابه اختلافا كثيرا ، ويبين ذلك روايته حديث ذي اليدين رواه عنه جماعة ، فمرة يذكر فيه واحدا ومرة اثنين ومرة جماعة غيرها ، ومرة يصل ومرة يقطع اهـ .




                                                                                                          الخدمات العلمية