الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

[ حكم ترتيب السور ] .

وأما ترتيب السور : فهل هو توقيفي أيضا ، أو هو باجتهاد من الصحابة ؟ خلاف :

فجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه .

قال ابن فارس : جمع القرآن على ضربين :

أحدهما : تأليف السور ، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ، فهذا هو الذي تولته الصحابة .

وأما الجمع الآخر : وهو جمع الآيات في السور ، فهو توقيفي تولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبريل ، عن أمر ربه .

ومما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور : فمنهم من رتبها على النزول ، وهو مصحف علي ، كان أوله : اقرأ ، ثم المدثر ، ثم ن ، ثم المزمل ، ثم تبت ، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني .

وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران على اختلاف شديد . وكذا مصحف أبي وغيره .

[ ص: 221 ] وأخرج ابن أشتة في المصاحف من طريق إسماعيل بن عياش عن حبان بن يحيى ، عن أبي محمد القرشي قال : أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال ، فجعلت سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ، ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم .

وذهب إلى الأول جماعة : منهم القاضي في أحد قوليه .

قال أبو بكر الأنباري : أنزل الله القرآن كله إلى السماء الدنيا ، ثم فرقه في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ، ويوقف جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع الآية والسورة ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن .

وقال الكرماني في البرهان : ترتيب السور هكذا هو عند الله في الكتاب المحفوظ على هذا الترتيب وعليه كان - صلى الله عليه وسلم - يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه ، وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين ، وكان آخر الآيات نزولا : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [ البقرة : 281 ] فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين .

وقال الطيبي : أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح ، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ .

قال الزركشي في البرهان : والخلاف بين الفريقين لفظي ; لأن القائل بالثاني يقول : إنه رمز إليهم ذلك ، لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ، ولهذا قال مالك : إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم ، فآل الخلاف إلى أنه : هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر .

وسبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير .

وقال البيهقي في المدخل : كان القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق . ومال ابن عطية إلى أن كثيرا من [ ص: 222 ] السور كان قد علم ترتيبها في حياته - صلى الله عليه وسلم - كالسبع الطوال والحواميم والمفصل ، وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده .

وقال أبو جعفر بن الزبير : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف ، كقوله : اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران رواه مسلم .

وكحديث سعيد بن خالد : قرأ - صلى الله عليه وسلم - بالسبع الطوال في ركعة . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، وفيه : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يجمع المفصل في ركعة .

وروى البخاري : عن ابن مسعود أنه قال - في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي . فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها .

وفي البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة ، جمع كفيه ، ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين .

وقال أبو جعفر النحاس : المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث واثلة : أعطيت مكان التوراة السبع الطوال . . . الحديث .

قال : فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من ذلك الوقت ، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد ، لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تأليف القرآن .

وقال ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي .

[ ص: 223 ] وقال ابن حجر : ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها ، لا يمتنع أن يكون توقيفيا .

قال : ومما يدل على أن ترتيبها توفيقي : ما أخرجه أحمد وأبو داود ، عن أوس بن أبي أوس ، عن حذيفة الثقفي قال كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف . . . . الحديث وفيه : فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : طرأ علي حزبي من القرآن ، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه .

فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟

قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم .

قال : فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال : ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة ، بخلاف ما عداه .

قلت : ومما يدل على أنه توفيقي كون الحواميم رتبت ولاء وكذا الطواسين ، ولم ترتب المسبحات ولاء ، بل فصل بين سورها ، وفصل بين طسم الشعراء وطسم القصص ب طس مع أنها أقصر منهما ، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت طس عن القصص .

والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي ، وهو : أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال . ولا ينبغي أن يستدل بقراءته - صلى الله عليه وسلم - سورا ولاء على أن ترتيبها كذلك . وحينئذ فلا يرد حديث قراءته النساء قبل آل عمران ; لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب فلعله فعل ذلك لبيان الجواز .

وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب ، عن سليمان بن بلال قال : سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة ، [ ص: 224 ] وإنما أنزلتا بالمدينة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ، ومن كان معه فيه ، واجتماعهم على علمهم بذلك ، فهذا مما ينتهى إليه ، ولا يسأل عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية